للقراءة والتحميل: تفوُّق جامع السليمية في أدرنة على آياصوفيا عمرانياًّ، د. محمود السيد الدغيم، جريدة الحياة؛ العدد:16256. الصفحة: 21. يوم الأحد 25 من رمضان سنة 1428 هـ/ 7 تشرين1/ أكتوبر سنة 2007م

جريدة الحياة : اضغط هنا

لقراءة النص وتحميله - جريدة الحياة بصيغة بي دي اف

اضغط هنا

*********

تطوّر العمارة العثمانية وتفوُّقها على عمارة آياصوفيا البيزنطية بعمارة جامع السليمية في أدرنة
د. محمد السيد الدغيم
تعرضت أياصوفيا في العهد البيزنطي إلى حرائق كبيرة ثلاث مرات، وجرت إصلاحات وترميمات لإرجاعها إلى حالها السابق. وعندما اكتمل صرْحُ البناء صرَخ الامبراطور "جستينانوس: جُستنيان" مخاطباً النبي سليمان عليه السلام قائلا: "لقد سبقتك". ومقصده من هذه العبارة: أن بناء آياصوفيا متفوِّقٌ على بناء هيكل سليمان في بيت المقدس، ولكن آياصوفيا تعرضت للزلزال بعد ربع قرن من بنائها، فانهار الجانب الغربي من قبَّتها الكبيرة الفخمة، وتحطم كرسي الواعظ، ثم رُمِّمَ البناء، ولكن القسطنطينية سقطت بأيدي الغزاة اللاتينيين فاحتلوها سنة 600 هـ/ 1204م، ونهبوا النفائس الموجودة في كنيسة آياصوفيا ثم أحرقوا الكنيسة فانهارت بعض أجزائها، وتحولت إلى خرابة، وبعدما حرر القسطنطينية القيصر ميخائيل الثامن باليولوغوس سنة 660هـ/ 1261م؛ أعاد إعمار آياصوفيا فعاد إليها تألقها الرومي الأرثوذكي من جديد.

استمرّ الصراع العسكري بين البيزنطيين والعثمانيين حتى سقطت أسوار القسطنطينية سنة 857 هـ/ 1453م، ودخل الجيش العثماني المدينة، فطُويتْ صفحاتُ القرون الوسطى، وأمَرَ السلطانُ محمد الفاتح بحقن الدماء، وطلَبَ من بطريق القسطنطينية أنْ يُشرفَ على مراسم دفن الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر وقائد الجيش البيزنطي حسب المراسم الرومية الأرثوذكسية، وذلك تقديراً لصمودهما وعدم الفرار من عاصمتهما، وأصدر فرماناً يُعطي بطريق القسطنطينية مرتبة وزير في البروتوكول العثماني الرسمي، وأوكل إليه إدارة الشؤون الشخصية والدينية لأبناء الطائفة الرومية الأرثوذكسية من رعايا السلطنة العثمانية الذي بقوا في البلاد ولم يغادروها، وبعدما رَتَّبَ السلطان شؤون المدينة أطلق عليها اسم إسلامبول، وأمر الإداريين باتخاذ الاجراءات اللازمة لإحياء المدينة وإعمارها، وعاد السلطان الفاتح إلى مدينة أدرنة عاصمة السلطنة العثمانية قبل فتح القسطنطينية.
وبعدما عاد السلطان الفاتح إلى مدينة أدرنة بدأ بعقد الاجتماعات مع أهل الْحَلِّ والعَقْد، وأهل الاختصاصات، وشيوخ الكار، وفي تلك الاجتماعات نُوقِشَت القضايا الطارئة التي أفرزها فتحُ القسطنطينينة، ومن جُملتها قضية ترميم المدينة، وإعادة إعمارها، وكانت عادة السلطان في تلك الاجتماعات الاصغاء للعلماء والعسكريين والمهندسين، وكان لايُدلي بدلوه حتى يسمعَ الآراء، ثم يناقشها مع المختصّين، ثم يتّخِذ القرارات المناسبة بعد الحصول على الفتاوى الشرعية، وهذا هو سرّ القرارات الصائبة التي كان يتَّخِذها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
وعندما عقد السلطان الفاتح مؤتمر إعادة إعمار القسطنطينية تحت شعار تحويلها إلى إسلامبول، تحدَّث البناؤون، فقدَّموا خطَطَ إعمارِ المدينة، والتفت السلطانُ إلى المعماري العبقري "خير الدين"، وقال: ما رأيك يا خير الدين بتجديد آياصوفيا؟
قدّم المعمار خير الدين فروض الطاعة بين يدي السلطان، وقال: مولاي سلطاني العزيز، لقد درستُ البناء دراسة معمارية كاملة، ووضعتُ الخططَ والتدابير الضرورية لتقوية أُسُسِ بناء آياصوفيا لكي يصمد، وأرى أن هذا البناء يحتاجُ إلى دعائم تَحُوْلُ دُوْنَ سقوطه، وتُساهِم بالمحافظة على توازُنه، وهذا يتطلَّبُ بناءَ قواعد ضخمة يمكن أن تتحَمَّلَ أربعةَ مآذن، وإنْ رغبَ مولاي السلطان بسماع المزيد فأنا جاهزٌ لمتابعة الحديث.
قال السلطانُ محمد الفاتح: أكملْ ياخير الدين، فالمحافظة على العمران في هذه المدينة وغيرها هدفٌ مشروعٌ من أهدافنا الإسلامية.
قال المعمار خير الدين: إنْ رغبتَ يامولاي السلطان يمكنني أنْ أُحوِّلَ لك كنيسةَ آياصوفيا إلى جامع، وخُططي جاهزةٌ بانتظار أوامركم يا مولاي.
انفضَّ مؤتمرُ المعماريين، واجتمع السلطانُ مع المشايخ، وتدارس معهم مسألة التحويل من الناحية الشرعية، فأفْتَوْا له بجواز ذلك إذْ أنَّ المدينة فُتِحَتْ عنوةً، ولم تُفتح سِلْماً، واستحسن العلماء والسلطان أن تُعطى كنيسة أخرى للبطريق، فأُعطيت له كنيسة فتحية في محلة "جارشامبا: الأربعاء" بمنطقة الفاتح في مدينة إسطنبول، وبقيت تلك الكنيسة مقرا له عدة قرون حتى نقل المقر إلى منطقة الفنار على ساحل خليج القرن الذهبي في إسلامبول، ومازالت كنيسة فتحية متحفاً يزوره عشاق الآثار القديمة.
وتولى المعمارُ خيرُ الدين الإشراف على تقوية بناء آياصوفيا بقواعد المآذن على الزوايا الأربع لبناء آياصوفيا، وبدأ اهتمامُ العثمانيين ببناء آياصوفيا فزادوا عليه مايلزم من منشآت إسلامية بطريقة أظهرتها وكأنها ليست إضافية، بل كأنها من الأقسام الأساسية للبناء منذ نشوئه، واستمرّ الاهتمام الهثماني بآياصوفيا حتى أُلغيت الخلافةُ الإسلامية العثمانية.

ولَدَىْ مُراجعة التطور العُمراني في ظلال السلطنة العثمانية يتَّضِحُ لنا أنَّ العمارة العثمانية قد تطوَّرتْ بشكلٍ يتناسبُ طردياًّ مع تطوُّرِ قوَّةِ السّلطنة، وهذا واضحٌ من خلال تتبُّع العمارة العثمانية خلال دَوْرِ التأسيس التمهدي وما تبعه من أدوار التطور العمراني (أنظر جريدة الحياة الأعداد من 16233 حتى 16243 الصادر في يوم الإثنين 12  رمضان المبارك سنة 1428 هـ/ 23 أيلول/ سبتمبر سنة 2007م)
ومن جُملة تطوُّرات العمارة العثمانية كان تطوُّر قِبابِ الجوامع والمساجد والزوايا والتكايا والمقابر، وهذا واضحٌ لأنَّ قِبابَ مدينة أدرنة تفوَّقت على قِبابِ مدينة بورصة بشكلٍ عام، ولما فُتِحَتْ إسلامبول تفوَّقت قبابُها على قِبابِ أدرنة في عُهود السلاطين: أبايزيد الثاني، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وبقيتْ قُبَّةُ آياصوفيا أوْسَع دائرةً وأعلى ارتفاعاً من كافَّةِ القِباب التي بُنيت في العواصم العُثمانية الثلاث وغيرها من مُدُن السلطنة العثمانية.
بقيتْ قُبَّةُ آياصوفيا مُتفوِّقةً على ما عَداها، ولما جاءَ المعمار سنان بن عبد المنان اشتدت الْمُنافَسَةُ العُمرانية في عهد السلطان سليمان القانوني، فبنى المعمار سنان مُجمَّعَ السُّليمانية، فتفوَّق على آياصوفيا كمُجمَّعٍ بما يتبعه من مرافق حضارية مُتكاملة تشمل ماهو مطلوبٌ دِينياًّ ودُنيوياًّ، ولكنَّ قبَّة السليمانية لم تُحطِّم الرقمَ القياسي الذي بقيتْ تحتفِظُ به قبَّة آياصوفيا، وبنى سنانُ جامع شاه زادة في إسلامبول إلى الجنوب من السليمانية بجوار رئاسة بلدية إستانبول حاليا، ورغم ماتميَّزَ به هذا الجامع من ميزات معمارية فنيّة، وسِعَةٍ وارتفاعٍ وزخرفةٍ، فإنَّ آياصوفيا بقيت مُحتفظةُ بالرقم القياسي، ورَحَلَ السلطانُ سليمانُ القانوني إلى دار البقاء في "8 ربيع أول 974 هـ/ 2/10/1566م" دُوْنَ أنْ يُحطِّمَ المعماريون العثمانيون الرقمَ القياسيَّ البيزنطيَّ الذي ظلَّتْ تحتفِظُ به قبَّةُ آياصوفيا سِعةً وارتفاعاً.
وبعدَما انتقلَ الخليفةُ سليمان القانوني إلى رحمة الله آلتِ السلطنةُ والخلافةُ إلى ابنه سليم الثاني الذي قاد البلاد بجسارة خارقة، واحتلت قواته مدينة موسكو، فهرب منها إيفيان الرهيب سنة 979 هـ/ 1571م، كما وصلتْ القواتُ العثمانية إلى إندونسيا فأنقذتها من الغزو البرتغالي سنة 976 هـ/ 1568م.

ولم تقتصر أنشطةُ السلطان سليم الثاني على ميادين الحروب، بل طَلَبَ من المعمار سنان أنْ يُحطِّمَ الرقم القياسيَّ العُمرانِيَّ ببناء قُبَّةٍ تفوْقُ قبَّةَ آياصوفيا، فدرسَ سِنان طبيعة الأرض، وخَرَجَ بنتيجةٍ تفيدُ أنَّ أرضَ مدينة إسطنبول غيرُ صالحةٍ لتشييد قبّة تتفوَّقُ على قبّة آياصوفيا، ولذلك انتقل غرباً إلى مدينة أدرنة، فاختار موقعاً مرتفعاً، فشيَّدَ فيه مُجمَّعاً يضمُّ سُوقا مسقوفا، والعديدَ من الملحقات الإنسانية، وبني جامعَ السليمية ذا القبَّةِ التي حطَّمَت الرقمَ القياسي سنة 981 هـ/ 1573م، وتفوَّقتْ على قبّة آياصوفيا.
وقد أظهرَ المعمارُ سنان عبقريةً فريدةً في إقامةِ القُبَّةِ، وذلك ببنائها‌ فوق قاعدة دائريةٍ محمولةٍ على شكلٍ مُثَمَّنٍ يرتفعُ على ثمانية قناطر، معقودةٍ فوق ثمانية "بوائك: ركائز" عرض كل قنطرة منها ستة أمتار، وهذه القناطر وفَّرَت الكثيرَ من منسوب ثقل البُنيان فيما لو أقيم على جدران، وتم تخفيف ثقل البناء أيضا بالإكثار من النوافذ والكُوّات، مما خفّف من ضغط البناء الذي بلغت مساحته 2475 متراً مربعاً، وأتاح فرصة التوسُّعِ بمحيط دائرةِ القبة التي بلغ قطرُها 31 مترا و30 سنتمترا، ورفع سقفها مسافة أعلى بلغت  43 مترا و28 سنتيمترا، وأحاط القبّةَ بأربع مآذن، يبلغ ارتفاع كلٍّ منها 70 مترا و89 سنتيمترا.

وهكذا ختم المعمار سنانُ حياته بتحطيم الرقم القياسي العالمي لأعلى قبَّةٍ في العالم آنذاك، ثم مات المعمار سنان بعد ان تجاوز الثمانين سنة، ودُفن في الضريح الذي اعدَّهُ لنفسه بجوار جامع السليمانية، ورغم رحيل المعمار سنان فمازالت الجامعة التي تحملُ اسمه في اسطنبول تُخرّج آلاف المعماريين العالميين.
******

لقراءة موضوع آياصوفيا

اضغط هنا

*******