دراسة متكاملة حول كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمؤلفه الضابط العسكري العثماني حاجي خليفة
د. محمود السيد الدغيم
كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمؤلفه العثماني حاجي خليفة
د. محمود السيد الدغيم
يعتبر كتاب كشف الظنون من أشهر ما أُلِّف من الكتب التي تبحث في التعريف بما ألّفه المؤلفون من الكتب؛ وما اكتشفه العلماء من العلوم الدنيوية والأُخروية، ويشتمل كشف الظنون على أسماء نحو :15000 إسماً من أسماء الكتب العربية والإسلامية، ويضم كشف الظنون نحو : 9500 اسم من أسماء المؤلفين، ويتطرّقُ المؤلف لشرح ماهيات نحو 300 علم من العلوم؛ وفن من الفنون.
ألفه كتاب كشف الظنون الضابط العثماني المعروف عند العرب بحاجي خليفة، والمشهور عند العثمانيين والأتراك بكاتب جلبي، وقد كانت بداية تأليفه في مدينة حلب الشهباء عاصمة الشمال السوري؛ وذلك سنة 1042هـ/ 1632م، وقد استمر المؤلف في تأليفه حوالي عشرين عاماً، وفرغ منه تقريبا سنة 1062هـ/ 1652م.
وبعدما انتهى حاجي خليفة من كتابة مسوّدة كتابه بدأ بتبييضه بخطه حتى مادة (الدروس) ثم أكمل تبييضه حتى آخره علماء آخرون. وقام باختصار كشف الظنون مع إضافة زيادات عليه الحسين العباسي النبهاني الحلبي تـ 1095هـ/ 1684م، وسماه مختصره: التذكار الجامع للآثار.
ومع مرور السنين وضع العلماء عددا من الذيول على كشف الظنون ومنها:
1- ذيل محمد عزتي أفندي بوشنه زاده ت1092هـ/ 1681م.
2- ذيل إبراهيم الرومي العربجي ت 1189هـ/ 1775م.
3- ذيل حنيف زاده ت1217هـ/ 1802م، ويشتمل على (5000) كتاب، وقد ألحق فلوغل هذا الذيل بالمجلد السادس من طبعته التي أصدرها في لايبزغ ما بين سنتي 1251و1275هـ مع ترجمة باللاتينية.
4- ذيل شيخ الإسلام عارف حكمت ت1275/ 1859م، وقد وصل فيه إلى حرف الجيم.
5- ذيل إسماعيل باشا البغدادي ت1339هـ/ 1921م، وسماه إيضاح المكنون، وهو يشتمل على أسماء: 19000 كتاب، وأتبعه البغدادي بكتاب في تراجم المؤلفين سماه: هدية العارفين، وهذان الذيلان مطبوعان مع طبعة كشف الظنون التي صدرت عن جامعة اسطنبول بعناية محمد شرف الدين يالتقيا سنة 1360 هـ/ 1941م.
6- ذيل إسماعيل صائب سنجر.
7- ذيل جميل العظم توفى سنة 1352 هـ/ 1933م وسماه: السر المصون، وقد افتتحه بمقدمة في ألف صفحة سماها: الإسفار عن العلوم والأسفار.
8- ذيل محمد الصادق النيفر ت سنة 1357 هـ/ 1938م، وسماه : سلوة المحزون.
9- وذيل محمد بن مصطفى البكري توفى سنة 1196هـ/ 1756م، وسماه: خلاصة تحقيق الظنون، وقد جرَّد فيه الكشف واستدرك عليه.
10- وذيل علي خيري توفى سنة 1327 هـ/ 1909م، واسمه: ضياء العيون حاشية على الكشف.
ولحاجي خليفة زهاء عشرين كتاباً في غاية الأهمية، منها: (جهان نامة) المطبوع سنة 1145هـ/ 1732م، وفيه يصف قارة أمريكا، وكتاب (لوامع النور في ظلمة أطلس مينور) ألفه بمساعدة صديقه الراهب الفرنسي الذي اعتنق الإسلام وتسمى ب(محمد إخلاصي) وساعده في ترجمة طائفة من الكتب الأوربية في تاريخ الفرنجة،
ومن الجدير بالذكر أن حاجي خليفة قد قضى حقبة طويلة من حياته في مدينة الموصل العراقية، وقبر أبيه معروف في جامع الموصل الكبير.
مقدمة كشف الظنون
قال كاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة: "زواهرُ نُطقٍ تلوحُ أنوارُ ألطافه من مَطالع الكتب والصحائف، وبواهر كلام تفوح أزهار إعطافه على صفحات العلوم والمعارف، والحمد الله الذي جعل زلال الكمال قوت القلوب والأرواح، وخصّ مزايا العرفان بفرحة خلا عنها أفراح الراح، وفضَّل الذوقَ الروحاني على الجسماني تفضيلا لا يعرفه إلا من تضلّع أو ذاق، وأودع في كُنْهِ الفضل لطفا لا يدركه إلا من تفضل وفاق والصلاة والسلام على الذي أكمل علوم الأولين والآخرين بكتاب ناطق آياته بينات وحجج؛ "قرآنا عربيا غير ذي عوج"، وصلى الله تعالى عليه؛ وعلى آله الأبرار، وصحبة الأخيار، ما طلع شموس المعاني من وراء حجاب السطور والدفاتر، وأنار أنوار المزايا من أشعة رشحات الأقلام والمحابر، وبعد!
فلما كان كشف دقائق العلوم وتبين حقائقها من اجل المواهب واعز المطالب؛ قيَّضَ اللهُ سبحانه وتعالى في كل عصر علماء قاموا بأعباء ذلك الأمر العظيم، وكشفوا عن ساق الجد والاهتمام في التعليم والتفهيم سيما الأئمة الأعلام من علماء الإسلام الذين قال فيهم النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فانهم سباق غايات، واساطين روايات ودرايات فمنهم من استنبط المسائل من الدلائل، فاصَّل وفرَّعَ، ومنهم من جمع وصنف فأبدع، ومنهم من هذب وحرر فأجاد، وحقق المباحث فوق ما يراد، رحم الله أسلافهم، وايد أخلافهم، غير أن أسماء تدويناتهم لم تدون بعد على فصل وباب، ولم يُرْوَ فيه خبرُ كتاب، ولا شك ان تكحيل العيون بغبار أخبار آثارهم على وجه الاستقصاء لعمري إنه أجدى من تفاريق العضاة، إذا العلوم والكتب كثيرة، والأعمار عزيزة قصيرة، والوقوف على تفاصيلها متعسر بل متعذر، وإنما المطلوب ضبط معاقدها، والعثور على مقاصدها."
وتحدث حاجي خليفة في مواضيع أحوال العلوم، فقال: "وقد ألهمني الله تعالى جمع أشتاتها، وفتح على أبواب أسبابها ،فكتبت ما رأيت في خلال تتبع المؤلفات، وتصفح كتب التواريخ والطبقات، ولما تمّ تسويده في عنفوان الشباب بتيسير الفياض الوهاب اسْقطتُه عن حيز الاعتداد، واسبلت عليه رداء الابعاد.
غير اني كلما وجدت شيئا ألحقته إلى ان جاء أجله المقدر في تبييضه، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فشرعت فيه بسبب من الأسباب وكان ذلك في الكتاب مسطورا، ورتبته على الحروف المعجمة كالمغرب والأساس (للزمخشري) حذرا عن التكرار والالتباس، وراعيت في حروف الأسماء إلى الثالث والرابع ترتيبا، فكل ماله اسم ذكرته في محله مع مصنفه وتاريخه ومتعلقاته ووصفه تفصيلا وتبويبا، وربما أشرت إلى ما روى عن الفحول، من الرد والقبول، وأوردت أيضا أسماء الشروح والحواشي، لدفع الشبهة ورفع الغواشي، مع التصريح بأنه شرح الكتاب الفلاني، وانه سبق أو سيأتي في فصله بناء على أن الْمَتْنَ أصلٌ، والفرع أولى أن يذكر عقيب أصله، وما لا اسم له ذكرته باعتبار الإضافة إلى الفن، أو إلى مصنفه في باب التاء والدال والراء والكاف برعاية الترتيب في حروف المضاف إليه؛ كتاريخ ابن الأثير؛ وتفسير ابن جرير؛ وديوان المتنبي، ورسالة ابن زيدون، وكتاب سيبويه.
وأوردت القصائد في القاف، وشروح الأسماء الحسنى في الشين، وما ذكرته من كتب الفروع قيدته بمذهب مصنفه على اليقين، وما ليس بعربي قيدته بأنه تركي أو فارسي أو مترجم ليزول به الإبهام أو أشرت إلى ما رأيته من الكتب بذكر شيء من أوله للعلام، وهو أعين على تعيين المجهولات، ودفع الشبهات، وقد كنت عينت بذلك كثيرا من الكتب المشتبهة.
وأما أسماء العلوم فذكرتها باعتبار المضاف إليه ،فعلم الفقه مثلا في الفاء وما يليه، كما نبهت عليه مع سرد أسماء كتبه على الترتيب المعلوم، وتلخيص ما في كتب موضوعات العلوم كمفتاح السعادة، ورسالة المولى لطفي الشهيد، والفوائد الخاتمانية، وكتاب شيخ الإسلام الحفيد، وربما ألحقت عليها علوما وفوائد من أمثال تلك الكتب بالعزو إليها، واوردت مباحث الفضلاء وتحريراتهم بذكر ما لها وما عليها.
وسميته بعد ان اتمته بعون الله وتوفيقه كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، ورتبته على مقدمة وأبواب وخاتمة، واهديته إلى معشر أكابر العلماء، وزمرة الفحول والفضلاء، وما قصدت بذلك سوى نفع الخلف، وابقاء ذكر آثار السلف، والله هو الميسر لكل عسير، نِعْمَ الميسر، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم".
+*******************+
تعريف العلم وإيضاح ماهيته عند حاجي خليفة في كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"
د. محمود السيد الدغيم
ألّفَ العالِمُ العاملُ حاجي خليفة كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" وتطرق في مقدمته للبحث في علوم زمانه وماهياتها، وذلك تحت عنوان: المقدمة في أحوال العلوم وفيها أبواب وفصول، فقال: "الباب الأول في تعريف العلم، وتقسيمه، وفيه فصول في ماهيته، واعلم انه اختلف في أنّ تصوّر ماهية العلم المطلق.
هل هو ضروري؟
أو نظري يعسر تعريفه؟
أو نظري غير عسير التعريف؟
والأول: مذهب الإمام الرازي.
والثاني: رأي إمام الحرمين الجويني والغزالي.
والثالث: هو الراجح، وله تعريفات:
التعريف الأول: اعتقاد الشيء على ما هو به. وهو مدخولٌ لدخول التقليد المطابق للواقع فيه، فَزِيْدَ قيدٌ عن ضرورة أو دليل، لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق؛ وهو الظنّ الحاصل عن ضرورةٍ أو دليل.
الثاني: معرفة العلوم على ما هي به وهو مدخولٌ أيضا لخروج علم الله تعالى إذ لا يسمي معرفة، ولذكر المعلوم، وهو مشتق من العلم؛ فيكون دورا، ولأن معنى على ما هو به؛ هو معنى المعرفة، فيكون زائدا.
الثالث: هو الذي يوجب كون من قام به عالما وهو مدخول أيضا لذكر العالم في تحري العلم، وهو دَوْرٌ.
الرابع: هو إدراك المعلوم على ما هو به، وهو مدخول أيضا لما فيه من الدور والحشو كما مرَّ، ولأن الإدراكَ مجازٌ عن العلم.
الخامس: هو ما يصحُّ مِمَّنْ قام بإتقان الفعل وفيه: انه يدخل القدرة، ويخرج علما، إذ لا مدخل له في صحة الإتقان، فان أفعالنا ليست بايجادنا.
السادس: تبيين المعلوم على ما هو به، وفيه الزيادة المذكورة والدور مع ان التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء، فيخرج عنه علم الله تعالى.
السابع: إثبات المعلوم على ما هو به، وفيه الزيادة والدور، وأيضا الإثبات قد يطلق على العلم تجوُّزا، فيلزم تعريف الشيء بنفسه.
الثامن: الثقة بان المعلوم على ما هو به، وفيه الزيادة والدور مع انه لزم كون البارئ واثقا بما هو عالم به، وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا.
التاسع: اعتقاد جازم مطابق لموجب، اما ضرورة أو دليل، وفيه انه يخرج عنه التصوير لعدم اندراجه في الاعتقاد مع انه علم، ويخرج علم الله تعالى لأن الاعتقاد لا يطلق عليه، ولأنه ليس بضرورة أو دليل، وهذا التعريف للفخر الرازي؛ عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا.
العاشر: حصول صورة الشيء في العقل، وفيه انه يتناول الظن؛ والجهل المركب؛ والتقليد والشك والوهم. قال ابن صدر الدين: هو أصحُّ الحدود عند المحققين من الحكماء؛ وبعض المتكلمين.
الحادي عشر: تمثل ماهية المدرَك في نفس المدرِك، وفيه ما في العاشر، وهذان التعريفان للحكماء مبنيان على الوجود الذهني؛ والعلم عندهم عبارة عنه، فالأول يتناول إدراك الكليات والجزئيات؛ والثاني ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات.
الثاني عشر: هو صفة توجب لمحلها تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيض، وهو الحدُّ المختار عند المتكلمين؛ إلا أنه يخرج عنه العلوم العادية كعلمنا مثلا بان الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب الآن ذهبا، فإنها تحتمل النقيض لجواز خرق العادة، وأُجيبَ عنه في محله، وقد يُزادُ قيدٌ بين المعاني الكلية، وهذا مع الغنى عنه يُخرِجُ العِلمَ بالجزئيات.
وهذا هو المختار عند من يقول: العلم صفة ذات تعلق بالعلوم.
الثالث عشر: هو تمييز معنى عند النفس تمييزا لا يحتمل النقيض، وهو الحدُّ المختار عند مَن يقول من المتكلمين: إن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم.
الرابع عشر: هو صفة تجلَّى بها المذكورُ لِمَنْ قامت هي به. قال العلامة الشريف الجرجاني: وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم، ومعناه: انه صفة يكشف بها لِمَن قامت به ما مِن شأنِهِ أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه.
والخامس عشر: حصول معنىً في النفسِ حُصولاً لا يتطرّق عليه في النفس احتمالُ كونهِ على غير الوجه الذي حَصَلَ فيه؛ وهو لسيف الدين لآمُديّ، قال: ونعني بحصول المعنى في النفس تَمَيُّزَهُ في النفس عمّا سِواه، ويُدخلُ فيه العِلم بالإثبات والنفي؛ المفرد والمركب؛ ويُخرِجُ عنه الاعتقادات؛ إذ لا يبعُدُ في النفس احتمالُ كونِ الْمُعتَقَدِ والْمَظنونِ على غير الوجه الذي حصَلَ فيه. انتهى.
الفصل الثاني فيما يتصل بماهية العلم من الاختلاف والأقوال
واعلم انه اختُلِفَ في أنَّ العِلم بالشيء هل يستلزمُ وجُودَهُ في الذهن؛ كما هو مذهب الفلاسفة؛ وبعض المتكلمين، أو هو تعلُّق بين العالم والمعلوم في الذهن؛ كما ذهب إليه جمهور المتكلمين.
ثم انه على الأول: النزاع في إننا إذا علمنا شيئا فقد تحققت أمور ثلاثة: صورة حاصلة في الذهن. وارتسام تلك الصورة فيه. وانفعال النفس عنها بالقبول. فاختُلِفَ في أنَّ العِلمَ؛ أيُّ هذه الثلاثة؟
فذهب إلى كل منها طائفةٌ، ولذلك اختُلِفَ في أنَّ العِلم هل هو من مقولة الكيف؟ أو الانفعال؟ أو الإضافة؟. والأصحُّ أنَّه من مقولة الكيفِ على ما بُيِّنَ في محلِه.
ثم اعلمْ انّ القائلين بالوجود الذهني مِنهمْ مَنْ قالَ: إن الحاصل في الذهن إنما هو شَبَحٌ للمعلوم وظِلٌّ له مُخالِفٌ إياهُ بالماهيةِ غايَتُهُ انّه مَبدأٌ لانكشافِهِ؛ ولكنَّ دليل المبحث لو تمَّ لدَلَّ على أنَّ لِلمعلومِ نَحْواً آخر مِن الوجود لا كَشَبَحِهِ المخالفِ له بالحقيقة.
ومنهم مَن قالَ: الحاصل في الذهن هو نفْسُ ماهية المعلوم لكنها موجودةٌ بوجود ظل غير أصلي، وهي اعتبار هذا الوجود؛ تسمى صورة، ولا تترتَّبُ عليها الآثار؛ فهذه الصورةُ إذا وُجِدَتْ في الخارج كانتْ عَيْنَ الْعَيْنِ، وإذا وُجِدت في الذهن كانت عينَ الصورة، أي: شبحٌ قائمٌ بنفس العِلم به ينكشِفُ المعلومُ، وهي العلم، وذو صورة، أي: ماهية موجودة في الذهن غير قائم به؛ وهي المعلوم.
وهما متغايران بالذات، فعَلَىْ رأي القائلين بالشَّبَح يكون العلم مِن مقولة الكيف بلا إشكال؛ مع كون المعلوم: مقولة الجوهر؛ أو مقولة أخرى؛ لاختلافهما بالماهية.
واما على رأي القائلين بحصول الماهيات بانفسها في الذهن؛ ففي كونه منها إشكالٌ مع إشكالِ اتحادِ الجوهر والعَرَض بالماهية؛ وهما متنافيان. وأجاب عنه بعض المحققين: بأن العلم من كل مقولة من المقولات، وأنَّ عدَّهُم العِلم مُطلقاً من مقولة الكيف؛ إنما هو على سبيل التشبيهِ. ويردُّ على انه يصدق على هذا تعريف الكيف على العلم، فيكون كيفاً، وبعضُ المدققين جوَّزَ تبدُّلَ الماهية بأنْ يكونَ الشيءُ في الخارج جوهراً، فإذا وُجِدَ في الذهن انقلبَ كيفاً؛ كالمملحة التي ينقلب الحيوانُ الواقعُ فيها مِلحاً، وهو مبحثٌ مشهورٌ وسنقِفُ على ما فيه مِنَ الرسائل إن شاء الله تعالى.
+**************+
العِلمُ الْمُدوَّنُ وموضوعه ومبادئه ومسائله وغايته عند حاجي خليفة في كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"
د. محمود السيد الدغيم
تناول حاجي خليفة العِلمَ المدوَّن وموضوعَه ومبادئه ومسائله وغايته في الفصل الثالث من مقدمة كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" فقال:
واعلمْ انَّ لَفْظَ العِلم كما يُطلَقُ على ما ذُكِرَ يُطلقُ على ما يُرادِفه، وهو أسماءُ العلوم المدوَّنةِ كالنحو والفِقه، فيُطلق كأسماء العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يُقالُ: فلانٌ يعلَمُ النحْوَ، وتارةً يطلقُ على التَّصْدِيقاتِ بتلك المسائل ودليلها، وتارةً يطلقُ على الملكة الحاصلة مِن تَكرارِ تلك التصديقات. أي: ملكة استحضارها. وقد تُطلقُ الملكة على التهيؤ التامِّ، وهو ان يكون عندَه ما يكفيه لاستعلام ما يُراد.
والتحقيق: انَّ المعنى الحقيقي للفظ العلم: هو الإدراك. ولهذا المعنى متعلّقٌ هو المعلوم. وله تابعٌ في الحصول يكون وسيلةً إليه في البقاء؛ هو الملكة، فأطلق لفظ العلم على كلٍّ منها؛ إمّا حقيقةً عُرفيّةً واصطلاحيةً، أو مجازاً مشهوراً.
وقد يُطلقُ على مجموع المسائل والمبادئ التصورية، والمبادئ التصديقية، والموضوعات، ومِن ذلك يقولون: أجزاء العلوم ثلاثة.
وقد تُطلقُ أسماءُ العلوم على مفهومٍ كُلِّيٍّ إجمالِيٍّ يُفصَّلُ في تعريفه، فإنْ فَصَّلَ نفْسَهُ كان حدًّا إسْمِيًّا، وإنْ بَيَّنَ لازمَهُ كان رَسْماً اسميًّا.
وأما حَدُّهُ الحقيقيُّ فإنَّمَا هو بتصوُّرِ مسائِلِهِ؛ أو بتصوُّرِ التصديقاتِ بِها، وأمَّا المبادئ وآنِيَةٌ الموضوعات فإنَّمَا عُدَّتْ جُزأً منها لِشِدَّةِ احتياجِها إليها. وفي تحقيق ما ذكرناهُ بياناتٌ ثلاثةٌ
البيان الأول: في بحث الموضوع
واعلم ان السعادة الإنسانية لما كانت مَنوطةً بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقَدْر الطاقة البشرية، وكانت الحقائق وأحوالها متكثرةً متنوِّعةً تصدَّى الأوائلُ لضبطها وتسهيل تعليمها، فافردوا الأحوالَ الذاتية المتعلقة بشيءٍ واحد؛ أو بأشياء مُتناسبة ودوَّنُوها على حِدَةٍ، وعدُّوها عِلْماً واحداً، وسَمَّوا ذلك الشيء أو الأشياءَ موضوعاً لذلك العِلم، لأنَّ موضوعات مسائلهِ راجعةٌ إليه، فموضوع العلم ما ينحل إليه موضوعات مسائله، وهو الْمُراد بقولهم في تعريفه: بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر، فثابرت العلوم في أنفسها بموضوعات، وهو تمايزٌ اعتبروه مع جواز الامتياز بشيء آخر كالغاية والمحمول.
وسلكت الأواخرُ أيضاً هذه الطريقة الثانية في علومهم، وذلك أمرٌ استحسنوه في التعليم والتعلُّم؛ وإلإ فلا مانع عقلاً من أنْ يُعَدَّ كلُّ مسألة عِلْما برأسه، ويُفرد بالتعليم والتدوين، ولا مِن أنْ يُعدَّ مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين؛ وإنْ تشاركت من وجهٍ آخر؛ ككونها متشاركة في أنها أحكامٌ بأمور على أخرى.
فَعُلِمَ أنَّ حقيقةَ كُلِّ عِلمٍ مُدوَّنٍ المسائلُ المتشاركةُ في موضوعٍ واحدٍ، وأنَّ لكلِّ عِلمٍ موضوعاً، وغايةُ كُلٍّ منهما جِهة واحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة، وتُعدُّ باعتبارها عِلْما واحداً، إلاّ أنَّ الأولى جهةُ وحدَةِ ذاتيةِ الموضوع، فيُقالُ في تعريف المنطق مثلاً: عِلْمٌ يُبحثُ فيه عن أحوال المعلومات، وتارةً باعتبار الغاية؛ فيُقالُ في تعريفه: آلةٌ قانونية تعصمُ مُراعاتُها الذِّهْنَ عن الخطأ في الفِكر، ثم انّ الأحوالَ المتعلِّقةَ بشيءٍ واحدٍ؛ أو بأشياء مُتناسبةٍ تناسُباً مُعتدًّا به في أمر ذاتِيّ كالخطِّ والسَّطحِ والجسمِ التَّعليمي، الْمُتَشَاْرِكَةَ في مُطْلَقِ الْمِقدار الذي هو ذاتِيّ لها علم الهندسة، أو في أمرٍ عَرَضِيّ كالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ المتشاركة في كونها مُوْصِلَةً إلى الأحكام الشرعية لعلم أصول الفقه، فتكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلْحَقُ الماهيّةَ من حيثُ هي؛ لا بواسطةِ أمرٍ أجنبيّ.
واما التي جميعُ مباحثِ العِلم راجعةٌ إليها؛ فهي إمّا راجعة إلى نفس الأمرِ؛ أوْ إلى جُزئِيّ تحتَهُ، كقولنا: الثلاثةُ فرْدٌ. وكقولِنا في الطبيعي: الصُّورةُ تفسِدُ وتخلف بدلا عنه. أو إلى عرضٍ ذاتِيّ له؛ كقولنا: المفرد لعلّه الفردُ، أمّا الأول، أو مركب، وامّا العرَضُ الغريبُ: هو ما يلحق الماهيةَ بواسطةِ أمرٍ عجيبٍ؛ إمّا خارجٍ عنها أعمّ منها أو أخصّ، فالعلومُ لا تبحثُ عنه؛ فلا ينظرُ المهندسُ في أنَّ الخطّ المستديرَ أحسنُ أو المستقيمَ؛ ولا في الدائرة نظير الخط المستقيم؛ أو ضدّه؛ لأنَّ الْحُسْنَ والتضادَّ غريبٌ عن موضوع عِلمهِ، وهو المقدارُ؛ فإنّهما يلحقان المقدارَ لا لأنّه مِقدارٌ؛ بلْ لِوصفٍ أعمّ منه؛ كوجودِهِ، أو كعدَمِ وجُوده، وكذا الطبيبُ لا ينظرُ في أنَّ الْجُرْحَ مُستديرٌ، أمْ غيرُ مستديرٍ لأنَّ الاستدارةَ لا تلحقُ الجسمَ من حيثُ هو جَريْحٌ بلْ لأمرٍ أعمّ منه؛ كما مرَّ.
وإذا قال الطبيب: هذه الجراحة مستديرة، والدوائر أوسع الأشكال، فيكون بَطِيء الْبُرْءِ لم يكن ما ذكره من عِلمه، ثم اعلمْ أنَّ موضوعَ علمٍ يجوز أنْ يكون موضوع علمٍ آخر، وأنْ يكونَ أخصّ منه، أو أعمّ، وأنْ يكون مُبايِناً عنه، لكن يندرجان تحت أمرٍ ثالثٍ، وأنْ يكون مُبايناً له غير له مندرجين تحت ثالثٍ لكن يشتركان بوجهٍ دوْن وجهٍ، ويجوز أنْ يكونا مُتباينين مُطلقاً.
فهذه ستة أقسام، والأول: أن يكون موضوعُ عِلمٍ عَيْنَ موضوعٍ أخر، فيُشترَطُ أنْ يكونَ كُلٌّ منهما مُقيَّداً بقيدٍ غير قيدِ الآخر، وذلك كأجرامِ العالم، فإنّها من حيثُ الشكل موضوعُ الهيئة، ومن حيثُ الطبيعة موضوعٌ لِعِلْمِ السماء، والعالَمِ الطبيعي، فافترَقا بالْحَيْثِيَّتَينْ، ثُمَّ ان اتَّفق ابحاثُ بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول، فلا بأسَ به، إذ يختلِف بالبراهين كقولهم: بأنّ الأرضَ مستديرة، وهي وسط السماء في الصُّوَرِ والمعاني، لكنَّ البرهانَ عليهما من حيثُ الهيئة غيرُ البرهان من جهة الطبيعي.
الثاني والثالث: أنْ يكونَ موضوعُ عِلمٍ أخصّ من عِلم آخر أعمّ منه فالعُمومُ والْخُصوصُ بينهما إمّا على وَجْهِ التحقيق بأنْ يكون العُمومُ والخصوصُ بأمرٍ ذاتيّ له، مثل كون العامّ جِنْساً لِلخاصّ، أو أمرٍ عَرَضِيٍّ.
فالأول: كالمقدار، والجسم التعليمي، فإنّ الجسمَ التعليمي أخصُّ، والمقدارَ جنسٌ له، وهو موضوعُ الهندسة، والجسم التعليمي موضوع المجسمات، وكموضوع الطب، وهو بدن الإنسان، فإنه نوعٌ من موضوع العِلم الطبيعي، وهو الجسم المطلق.
والثاني: كالْمَوجود والْمِقدارِ فإنَّ الموجودَ: موضوعُ العِلم الإلهي، والمقدارَ: موضوعُ الهندسة، وهو أخَصُّ من الموجود؛ لا لأنّه جِنسُهُ، بلْ لكونه عرضاً عامًّا له.
الرابع: أنْ يكون الموضوعان مُتباينين، لكن يندرجان تحت أمرٍ ثالثٍ كموضوع الهندسةِ والحسابِ، فإنّهما داخلان تحت الْكَمِّ فيُسمَيَان مُتساويين.
الخامس: أنْ يكونا مُشتركين بوجهٍ دُوْنَ وجهٍ مثل موضوعَيّ الطبِّ والأخلاقِ، فإنَّ لِمَوضوعَيْهِما اشتراكاً في القُوى الإنسانية.
السادس: أنْ يكونَ بينهما تبايُنٌ، كموضوع الحساب والطبِّ، فليس بَيْنَ العَددِ وبَدَنِ الإنسان اشتراكٌ، ولا مُساواةٌ.
تنبيه: اعلم أنَّ الموضوعَ في عِلمٍ لا يُطلبُ بالْبُرهانِ لأنَّ المطلوبَ في كُلِّ عِلمٍ هي الأعراضُ الذاتيةُ الموضوعةُ، والشيءُ لا يكونُ عرَضاً ذاتيًّا لنفْسِه بلْ يكونُ إمّا بَيِّناً أوْ مُبَرْهَنًا عليه في عِلمٍ آخر فوقه بحيثُ يكون موضوعُ هذا العِلمِ عرِضاً ذاتيًّا لموضوعِهِ إلى أنْ ينتهي إلى العِلمِ الأعلى الذي موضوعُهُ موجودٌ لكنْ يجبُ تَصَوُّرُ الموضوع في ذلك العِلم، والتصديقُ بأهلِيَّتِهِ بوجهٍ ما، فكَوْنُ عِلْمٍ فوْقَ عِلمٍ أو تَحْتَهُ مرجِعهُ إلى ما ذَكَرْنا؛ فافْهَمْ.
+*******************+
تعريف المبادئ المستعملة في العلوم عند حاجي خليفة في كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"
د. محمود السيد الدغيم
تناول حاجي خليفة تعريف العلم وإيضاح ماهيته في مقدمة كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، وتناول العِلمُ الْمُدوَّنُ وموضوعه ومبادئه ومسائله وغايته، فقال في حدِّ العِلم: "وأما حَدُّهُ الحقيقيُّ فإنَّمَا هو بتصوُّرِ مسائِلِهِ؛ أو بتصوُّرِ التصديقاتِ بِها، وأمَّا المبادئ وآنِيَةٌ الموضوعات فإنَّمَا عُدَّتْ جُزأً منها لِشِدَّةِ احتياجِها إليها. وفي تحقيق ما ذكرناهُ بياناتٌ ثلاثةٌ" وخصّص البيان الأول: في بحث الموضوع، وقد أوردناه في الحلقة الماضية. ثم أوردَ البيان الثاني في المبادئ، فأوضحها قائلاً:
"وهي المعلوماتُ الْمُسْتعمَلةُ في العلوم لبناءِ مطالِبها الْمُكتسَبَة عليها، وهي إمّا تصويرية؛ كحُدود موضوعِهِ، وحُدودِ أجزائِهِ وجُزئياتهِ ومَحمُولاتِهِ، إذْ لا بُدَّ من تصوُّرِ هذه الأمور بالْحَدِّ المشهور، وإمّا تصديقُهُ، وهي القضايا المتألِّفَةُ عنها قياساتُها، وهي على قسمين:
الأول: أنْ تكون بَيّنةً بنفسِها، وتُسمّى الْمُتعارفة، وهي:
إمّا مبادئ لكلِّ عِلمٍ، كقولِنا: النَّفْيُ والاثباتُ لا يجتمعان؛ ولا يرتفعان.
أوْ لِبعضِ العلوم، كقول إقليدس: إذا أُخِذَ من الْمُتساويين قَدران مُتساويان بقِيَ الباقيان مُتساويين.
الثاني: أن تكون غيْرَ بَيّنةٍ بنفْسِها لكنْ يجبُ تسليمُها، ومن شأنِها أنْ تُبيّنَ في عِلمٍ آخر، وهي مسائلٌ بالنسبة إلى ذلك العِلم الآخر، والتَّسليْمُ: إنْ كان على سبيلِ حُسْنِ الظّنِّ بالعلم تُسمّى أُصُوْلاً موضوعة، كقول الفقيه: هذا حرامٌ بالإجماع، فكونُ الإجماعِ حُجّة من الأمور الْمُسلّمة في الفِقه لأنّها من مسائِل الأُصولِ.
وإنْ كان على استنكارٍ تُسمّى مُصادرات مِنَ الْمُصادرات، ويجوز أنْ تكونَ الْمُقدِّمَةُ الواحدةُ عند شخْصٍ مِن الْمُصادرات، وعِندَ آخر من الأصُولِ الْمَوضوعةِ.
وقد تُسمّى الْحُدُوْدُ والمقدِّماتُ الْمُسَلَّمةُ أوضاعاً، وكُلُّ واحِدٍ منها يكون مَسائِلَ في عِلمٍ آخر فوقه إلى الأعلى، لكن يجوزُ أنْ يكونَ بعضُ مسائلِ العِلم السَّافِلِ موضوعاً وأصولاً للعِلم العالي بشرطِ أنْ لا تكونَ مُبَيّنة بنفسِها أوْ بغيرها من الأصول التي بُنِيَتْ على تلك المسائلِ؛ بلْ بِمُقدِّماتٍ بَيِّنَةِ بنفسِها، أو بغيرها من الأصول، ولا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وأيضاً لا يجوزُ أنْ يَثبُتَ شيءٌ مِن المقدِّمات غَيْرِ الْبَيِّنَةِ مِن الأصُول الموضوعة والْمُصادراتِ بالدَّلِيل إنْ توقَّفَ عليها جَمِيعُ مقاصِدِ العُلوم لِلدَّوْرِ فإنْ توَقَّفَ عليها بعْضُ مَقاصِدِها فيُمكِنُ بيانُها في ذلك العِلم. والأولُ: يُسمّى الْمَبادئُ العامّة ككَونِ النَّظَرِ مُفيداً لِلعين.
والثاني: المبادئُ الخاصَّةُ كإبطالِ الْحُسْنِ والْقُبْحِ الْعَقلِيَّيْنِ.
البيان الثالث: في مسائل العلوم، وهي القضايا التي تطلبُ في كُلِّ عِلمٍ نِسْبَةَ مَحمُولاتِها بالدَّليل إلى موضوعاتِها، وكُلُّ عِلمٍ مُدَوَّنُ المسائِلِ الْمُتشاركة في موضوعٍ واحدٍ كما مَرَّ، فيكون المسائلُ موضوعَ العِلمِ أعْنِيْ: أهلِيّته البسيطة وهي آنِيَّتُها.
وموضوع المسألة قد يكونُ بنفْسِهِ موضوعاً لذلك العِلمِ كقول النّحوي: كُلُّ كلامٍ مُرَكَّبٍ من اسْمَيْنِ أوْ اسمٍ وفِعلٍ، وإنَّ الكلامَ هو موضوعُ النَّحْوِ أيضاً.
وقد يكون موضوعُ المسألةِ موضوعَ ذلك العِلمِ مع عَرَضٍ ذاتِيّ له كقولنا في الهندسة: الْمِقدارُ الْمُباينُ لِشيءٍ مُباينٍ لِكلِّ مِقدارٍ يُشاركُهُ فالموضوعُ في المسألةِ؛ الْمِقدارُ الْمُبايِنُ، والمبيّن عَرَضٌ ذاتِيّ له.
وقد يكون موضوعُ المسألة نوعَ موضوعِ العِلمِ، كقولنا في الصّرف: الإسمُ إمّا ثُلاثِيٌّ، وإمّا زائِدٌ على الثُّلاثِيّ، فإنّ موضوعَ العِلمِ الكلِمةُ، والاسمَ نوعُهُ.
وقد يكون موضوعُ المسألة نوعَ موضوعٍ مع عَرَضٍ ذاتِيٍّ له، كقولنا في الهندسة: كلُّ خَطٍّ مُستقيمٍ وَقَعَ على مُستقيمٍ فالزّاويتانِ الحادِثتانِ إمّا قائِمَتانِ، أو مُعادِلتان لَهُمَاْ، فالْخَطُّ نوعٌ لِلمِقدار، والْمُستقِيْمُ عَرَضٌ ذاتِيٌّ له.
وقد يكون موضوعُ المسألةِ عَرَضاً ذاتِيًّا لِموضوعِ العِلمِ كقولنا في الهندسة: كُلُّ مُثلَّثٍ زواياهُ مُساويةٌ لِقائِمَتينِ فالْمُثَلَّثُ من الأعْرَاْضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْمِقدَارِ.
خاتمة الفصْلِ: في غاية العُلوم. واعلمْ أنّهُ إذا ترَتّبَ على فِعْلٍ أثَرٌ، فذلِكَ الأثرُ من حَيثْ أنَّهُ نتيجةٌ لِذلك الفعلِ وثمرته يُسمّى فائدة، ومن حيثً أنَّهُ على طَرَفِ الفِعل ونِهايَتِهِ يُسمَّى غاية، ففائدةُ الفِعل وغايتُهُ مُتَّحِدتان بالذات، ومختلفتان بالاعتبار، ثُمَّ ذلك الأثرُ الْمُسمَّى بهذين الأمرين إنْ كان سَبَبًا لإِقْدَاْمِ الفاعِلِ على ذلك الفِعلِ يُسَمَّى بالقياسِ إلى الفاعِل غرَضاً ومَقصُوداً، ويُسمَّى بالقياس إلى فِعْلِهِ عِلَّةً غائِيَّةً، والغرضُ والعِلَّةُ الغائيَّةُ مُتَّحِدان بالذاتِ، ومُختَلِفان بالاعتبارِ، وإنْ لَمْ يكُنْ سبباً لِلإقدامِ كان فائدةً وغايةً فقط، فالغاية أعَمُّ من العِلة الغائية، كذا أفادَهُ العَلامة الشريف الجرجاني، فَظَهَرَ أنَّ غايةَ العِلم ما يُطلَبُ ذلك العلمُ لأجْلِهِ ثُمَّ أنَّ غايةَ العُلوم غيْرُ الآليةِ حُصولُها أنفسها لأنَّها في حَدِّ ذاتِها مَقصودٌ بذواتِها، وإنْ أمكَنَ أنْ يترتبَ عليها مَنافِعُ أُخَر، والتَّغايُرُ الاعتباريُّ كافٍ فيه، فاللازمُ من كونِ الشيء غاية لنفْسِهِ أنْ يكونَ وجُودُهُ الذِّهنيّ عِلَّةً لِوجُودِهِ الخارجيّ، ولا مَحذور فيه، وأمَّا غايةُ العُلوم الآليةِ، فهوَ حُصولُ العَمَل سواءً أَ كان ذلك العملُ مَقصوداً بالذّاتِ، أو لأمْرٍ آخر يكونُ غايةً أخيرةً لتلك العلوم.
وبعد إيراد الفصول الثلاثة السابقة أورد حاجي خليفة في مقدمة كتاب كشف الظنون الفصل الرابع، وخصَّهُ في تقسيم العلوم بتقسيمات معتبرة وبيان اقسامها إجمالا، فقال: "اعلمْ أنّ العِلمَ وإنْ كان مَعنىً واحِداً وحقيقةً واحدةً إلاّ أنّه يَنقسِمُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ من جهاتٍ مُختلِفةٍ، فينقسِمُ من جهةٍ إلى قديمٍ ومُحْدَثٍ، ومن جهة مُتعلِّقةٍ إلى تصَوُّرٍ وتصديقٍ، ومن جِهةِ طُرُقِهِ إلى ثلاثةِ أقسام:
قِسْمٌ يثبُتُ في النفس.
وقِسْمٌ يُدرَكُ بالْحِسِّ.
وقِسْمٌ يُعلَمُ بالقِياس.
وينقسِمُ من جِهَةِ اختلافِ موضوعاتِهِ إلى أقسامٍ كثيرةٍ يُسمَّى بعضُها عُلُومًا، وبعضُها صَنائِعَ. وقد أوردنا ما ذكَرَهُ أصحابُ الْمَوضوعاتِ في حَصْرِ أقسامِها.
ثم أورد حاجي خليفة تقسيمات العلم، فذكر في التقسيم الأول أنّ العلوم المدونة على نوعين:
الأول: ما دونه المتشرِّعَةُ لِبيان ألفاظ القرآن، أو السُّنَّةِ النبويّة لفظاً وإسناداً، أو لإظهارِ ما قصد القرآن من التفسير والتأويل، أو لإثباتِ ما يُستفادُ منهما، يعني: الأحكام الأصليّة الاعتقاديّة، أو الأحكام الفرعيّة العَمَليّة، أو تعيين ما يُتوَصَلُ به مِن الأصول في استنباط تلك الفروع. أمّا ما دُوِّن لِمَدخوليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة اعني الفنون الأدبية.
النوع الثاني: ما دَوَّنَه الفلاسفةُ لِتحقيق الأشياء كما هي، وكيفية العملِ على وِفْقِ عُقولِهم.
وذكر حاجي خليفة في التقسيم الثاني تقسيمين مشهورين:
أحدهما: أنّ العلوم إمّا نظرية، أي غير مُتعلقة بكيفية عملٍ، وإمّا عملية أيْ مُتعلقة بِها.
وثانيهما: أنَّ العُلومَ إمّا أنْ لا تكون في نفْسِها آلةٌ لتحصيل شيءٍ آخر، بلْ كانت مقصودة بذواتها، وتُسمّى غير آلية، وإمّا أنْ تكونَ آليةً لهُ غيرَ مقصودة في نفسها وتُسمَّى آلية، ومُؤداها واحدٌ، فأمّا ما يكون في حَدِّ ذاته آلة لتحصيل غيرهِ، فقد جمع معنى الآلى إلى معنى العملي، وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن مُتعلقاً بكيفية عملٍ، وما لم يتعلقْ بكيفية عملٍ لم يكُنْ في نفسِهِ آلة لغيره، فقد رجع معنى النظري، وغير الآلي إلى شيءٍ واحِدٍ، ثم أنّ النظريَّ والعمليَّ يُستعملان في معانٍ ثلاثةٍ:
أحدهما: في تقسيم مُطلقِ العُلوم، فالْمَنطقُ والْحِكمةُ العمليَّةُ والطبُّ العمَلي، وعِلمُ الخياطة كُلها داخلةٌ في العملي المذكور لأنها بأسْرِها مُتعلِّقَةٌ بكيفيّة عملِ، إمّا ذِهنِيّ كالمنطقِ، أو خارجيّ كالطبِّ مثلاً.
وثانيها: في تقسيم الحكمة فانّهم بعْدَ ما عرَّفوا الحكمةَ بأنها عِلمُ أحوال أعيانِ الموجودات على ما هي عليهِ في نفس الأمرِ بقدْرِ الطاقة البشرية، قالوا: تلك الأعيانُ. أمّا الأفعالُ والأعمالُ التي وجُودُها بقُدرتِنا واختيارنا أو لا.
فالعِلم بأحوال الأول من حيث يؤدّي إلى صلاح المعاش والمعاد يُسمّى حكمة عَملية.
والعلم بأحوال الثاني يُسمّى حكمة نظرية.
وثالثها: ما ذُكِرَ في تقسيم الصناعة، أيْ العِلم الْمُتعلِّقُ بكيفيَّةِ العمَلِ مِن أنّها إمّا عَمليّة، أيْ يتوَقَّفُ حُصُولُها على مُمارسة العمل من أنّها عملية، أيْ يتوقف حصولُها عليها، فالفِقهُ والنَّحْوُ والْمَنطِق والِحكِمة العملية والطِّبُّ العمليّ خارجة عن العملية بهذا المعنى، إذْ لا حاجةَ في حُصولِها إلى مُزاولة الأعمالِ بِخِلافِ عِلم الخياطةِ والْحِياكَةِ والِحِجامةِ لِتوَقُّفِهَا على الْمُمَارَسَةِ والْمُزاوَلَةِ.
ثم أورد حاجي خليفة التقسيم الثالث فقال: اعلم ان العلم ينقسم إلى حكمى وغير حكمى والاخير ينقسم إلى ديني وغير ديني والديني إلى محمود ومذموم ومباح..وفصّل ذلك ثم أورد التقسيم الرابع فقال: إن كل علم إما أن يكون مقصودا لذاته أو لا.. وبعد تفصيل ذلك أورد التقسيم الخامس فرجح رأي طاشكبري زادة في مفتاح السعادة حيث قال : « اعلمْ أن للأشياء وجوداً في أربع مراتب، في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان، وكل سابق منها وسلية إلى اللاحق، لأن الخط دال على الألفاظ، وهذه على ما في الأذهان، وهذا على من في الأعيان، والوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل، وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي، واما الاولان فمجازيان قطعاً. ثم العلم المتعلق بالثلاث فإمّا عمليّ لا يقصد به حصول نفسه بل غيره، أو نظري يقصد به حصول نفسه، ثم ان كلاًّ منهما إمّا أنْ يبحث فيه من حيث أنّه مأخوذ من الشرع، فهو العلم الشرعي، أو من حيث انه مقتضى العقل فقط، فهو العلم الحكمي فهذه هي الأصول السبعة، ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه وتتبع ما فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعا، ولعلي سأزيد بعد هذا.
وأتبع حاجي خليفة تفصيل ذلك ثم أورد الفصل الخامس في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به وفيه إعلامات: الإعلام الأول في شرفه وفضله. والإعلام الثاني
في كون العلم الذ الاشياء وانفعها. والإعلام الثالث في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما. والإعلام الرابع في مراتب العلوم في التعليم. ثم أورد الباب الثاني في منشأ العلوم والكتب وما في ذلك من إفهامات. وتلاه الباب الثالث في المؤلفين والمؤلفات وفيه ترشيحات في أقسام التدوين وأصناف المدونات، ثم أورد الباب الرابع في فوائد منثورة من أبواب العلم وفيه مناظر وفتوحات، حول العلوم الإسلامية، وشرائط تحصيل العلم واسبابه، ثم أورد الباب الخامس في لواحق المقدمة من الفوائد وفيه مطالب.
+****************+
لواحق مقدمة كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لمؤلفه حاجي خليفة
د. محمود السيد الدغيم
ضمَّن حاجي خليفة الباب الخامس من مقدمة كشف الظنون لواحق المقدمة وما في ذلك من الفوائد وفيه مطالب. فقال: مطلبُ لُزومِ العُلوم العربية. واعلمْ أنَّ مباحِثَ العلوم إنّما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مَباحِث الألفاظ، وموادّها، ومن بين العلوم العقلية، وهي في الذهن واللغات إنّما هي تُرجُمان عمّا في الضمائر من المعاني، ولا بُدَّ في اقتناصِها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها، وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخةً بحيث تتبادرُ المعاني إلى الذهنِ من الألفاظِ زالَ الْحِجابُ بَيْنَ المعاني والفَهم، ولم يبقَ إلاّ مُعاناة ما في المعاني من المباحث.
هذا شأن المعاني والفهم مع الألفاظ والخطّ بالنسبة إلى كلِّ لُغة ثم إنّ الملّة الإسلامية لما اتَّسَع مِلْكُها، ودَرَسَتْ علومُ الأولين بِنُبوَّتِها وكِتابها صَيَّروا علومَهم الشرعية صناعةً بعد أنْ كانت نقلاً، فحدثتْ فيها الملكات، وتشوّقوا إلى عُلوم الأُمَمِ فنقلوها بالترجمة إلى علومهم، وبقيت تلك الدفاترُ التي بلُغتِهم الأعجمية نسياً مَنسيًّا، وأصبحت العلومُ كلّها بلُغةِ العربِ، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفةِ الدِّلالات اللفظيّة والخْطيّة في لسانهم دون ما سواه من الألْسُنِ لِدُرُوْسِهَا وذهابِ العِناية بِها.
وقد ثَبَتَ أنّ اللغةَ ملكةٌ في اللسان، والْخَطَّ صِناعةٌ ملكتها في اليدِ، فإذا تقدمتْ في اللسان ملكةُ العُجمةِ صار مُقصِّراً في اللغة العربية لأنَّ الملكةَ إذا تقدَّمتْ في صِناعةٍ قَلَّ أنْ يُجيدَ صاحبُها ملَكَةً في صِناعةٍ أُخرى، إلاّ أنْ تكونَ مَلكةُ العُجمةِ السابقةِ لم تَسْتَحْكِمْ؛ كما في أصاغر أبناء العَجم، وكذا شأنُ مَنْ سَبَقَ له تعَلُّمُ الخطِّ الأعجميّ قَبْلَ العربيّ.
ولذلك ترى بعضَ عُلماء الأعاجم في دُروسِهم يَعدلُونَ عن نقلِ المعنى من الكُتب إلى قِراءَتِها ظاهراً يُخفّفون بذلك عن أنفسِهم مُؤونَةَ بعضِ الحجب، وصاحبُ الملكة في العبارة والخطِّ مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
مَطْلَبُ علوم اللسان العربيّ:
اعلمْ أنّ أركانه أربعة، وهي: اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، لما سبق من أنّ مأخذَ الأحكامِ الشرعيّةِ عربيٌّ، فلابُدَّ من معرفة العلوم المتعلِّقة به، ويتفاوت في التأكُّد بتفاوُت مراتبها في التَّوفِيَةِ بمقصودِ الكلام، والظاهرُ أنَّ الأهَمَّ هو النحو؛ إذْ به تتبيَّنُ أصولُ المقاصِد بالدِّلالة، ولولاهُ لَجُهِلَ أصلُ الإفادةِ، وكان من حَقِّ عِلم اللغة التقديمُ لولا أنَّ أكثر الأوضاع باقيةٌ في موضوعاتها لم يتغير بخلافِ الإعراب، فإنّه يتغيرُ بالجملة، ولم يبقَ له أثرٌ، وليس اللغة كذلك.
مَطلَبُ الأدبيات:
واعلمْ أنَّ المقصودَ مِن عِلم الأدب - عند أهل اللسان - َثَمَرَتُهُ، وهي الإجادةُ في فَنَّيِّ المنظومِ والْمَنثور على أساليبِ العرَب، فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب، والمهمّ من الأنساب والأخبار العامة، والمقصود بذلك: أنْ لا يَخْفى على الناظر فيه شيءٌ من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتِهم إذا تصفَّحَهُ، ثُمَّ أنّهم إذا حَدُّوْا هذا الفنَّ قالوا: هو حِفظُ أشعار العرب وأخبارها والأخذُ بكُلِّ عِلمٍ من طَرَفٍ، يريدون من علوم اللسانِ، والعلوم الشرعية لأنّه لا مَدخِل لغير ذلك من العلوم في كلامهم إلاّ ما ذهب إليه المتأخرون عند كَلَفِهِم بصناعة الموارد بالإصطلاحات العِلمية، فاحتاج حينئذٍ إلى معرفتها.
مَطْلَبٌ: انه لا تتَّفقُ الإجادةُ في فَنّيِّ التّعلّم والنثر إلاّ لِلأقلِّ، والسببُ فيه أنه ملكةٌ في اللسان، فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت عن تمام تلك الملكة اللاحقة لأنّ قبولَ الملكات وحصولها على الفطرة الأولى أسهلُ، وإذا تقدَّمتها ملكاتٌ أخرى كانت منازعةً لها فوقعت الْمُنافاةُ، وتعذَّرَ التّمَامُ في الملكة، وهذا موجودٌ في الملكات الصناعية كلِّها على الإطلاق.
مطلب: تعيين العلم الذي هو فرضُ عَيْنٍ على كُلِّ مُكَلَّفٍ، أعني: الذي يتضمَّنُهُ قولُه عليه الصلاة والسلام: "طَلَبُ العِلم فريضةٌ على كُلِّ مُسلِمٍ ومُسلِمة".
واعلمْ أنّ للعُلماء اختلافاً عظيماً في تعيين ذلك العِلم.
قال المفسرون؛ والمحدِّثون: هو عِلم الكتاب والسنة.
وقال الفقهاء: هو العِلم بالحلال والحرام.
وقال المتكلِّمون: هو العِلم الذي يُدرَكُ به التوحيدُ الذي هو أساسُ الشريعة.
وقال الصوفِيَّةُ: هو عِلْمُ القلب، ومعرفة الخواطر لأنَّ النِّيَّةَ التي هي شرطٌ للأعمالِ لا تَصِحُّ إلاّ بِها.
وقال أهلُ الحقِّ: هو عِلم المكاشفةِ.
والأقرب إلى التحقيق: إنّه الْعِلْمُ الذي يشتمِل عليه قولُهُ عليه الصلاةُ والسّلامُ "بُنِيَ الإسلامُ على خمس..." الحديث، لأنَّهُ الفرض على عامّةِ المسلمين، وهو اختيارُ الشيخ أبي طالب الْمَكِّيّ، وزاد عليه بعضُهُم: إنَّ وُجوبَ الْمَبانِي الخمْسة إنّما هو بقَدرِ الحاجَةِ، مثلاً مَنْ بَلَغَ ضَحوَة النهار يَجبُ عليه أنْ يعرفَ الله سُبحانه وتعالى بصِفاتِهِ استدلاْلاً، وأنْ يَتَعَلَّمَ كَلمَتيّ الشهادة مع فَهْمِ مَعناهُمَا، وإنْ عاشَ إلى وقتِ الظُّهْرِ يَجِبُ أنْ يتعَلَّمَ أحكامَ الطهارة والصلاة، وإنْ عاش إلى رمضان يجبُ أنْ يَتعلَّمَ أحكامَ الصوم، وإنْ مَلَكَ مالاً يجبُ أنْ يَتعلَّمَ كَيفيةَ الزكاة، وإنّ حَصَلَ له استطاعة الْحَجِّ يَجبُ أنْ يَتعلَّمَ أحكامَ الحجِّ ومناسِكَه. هذه هي المذاهب المشهورة في هذا الباب.
مطلبٌ: أسماءُ العلوم:
اعلمْ أنّ المشهورَ عند الجمهور أنّ حقيقةَ أسماءِ العلوم الْمُدوَّنَةِ المسائِلُ المخصُوصةُ، أو التصديقُ بها، أو الملَكَةُ الحاصِلَةُ - من إدراكِها مَرَّةً بعد أُخرى - التي تقتدِرُ بها على استحضارها متى شاءَ، واستِحصالُها مجهولة. وقال السيد الشريف الجرجاني، في حاشية كتاب شرح المواقف: "إنّ اسمَ كلِّ عِلمٍ موضوع بإزاء مفهومٍ إجمالِيٍّ شاملٍ له" انتهى.
ثم انّه قد تُطلَقُ أسماءُ العلوم على المسائل والمبادئ جميعاً؛ لكنّه قد يشعر كلام بعضِهم أنّ ذلك الإطلاقَ حقيقةٌ.
والرّاجِحُ أنّه على سبيل التجَوُّزِ والتّغليبِ، وإلاّ لَرُبَّما يلزمُ الاختلاطُ بين العِلمين إذْ بعضُ المبادئِ لِعِلمٍ يجوزُ أنْ يكون مسألة من عِلمٍ إلى آخر، فلا يتمايزان، ومِمَّا يجبُ التنبيهُ عليه أنّهم اختلفوا في أنّ أسماءَ العلوم مِن أيّ قبيلٍ مِنَ الأسماء.
اختار السيد الشريف الجرجاني: أنّها أعلامُ الأجناس، فإنّ اسمَ كُلِّ عَلَمٍ كُلِيّ يتناولُ أفراداً مُتعدِّدَةً إذ القائمُ منه بزيدٍ غير القائمِ منه بعمروٍ شخصاً.
وقال ابنُ ركن الدين الخوافي: إنّها أعلامٌ شخصيّةٌ نظراً إلى أنّ اختلافَ الأعراضِ باختلافِ الْمَحالِّ في حُكْمِ العَدَمِ.
وقال الحفيدُ: المنقولُ عن الْمُرَكَّبِ الإضافيّ لا يتعارف كونه اسمُ جنسٍ، وكثيرٌ من أسماء العلوم مُركباتٌ إضافية، وقد خطَرَ ببالي أنّه يجوزُ أنْ يجعل وضع أسماءِ العلوم من قَبِيْلِ وضعِ الْمُضْمَرات باعتبارِ خُصوصِ موضوعٍ، وعُمومِ الوضْعِ، ولا غُبارَ على هذا التوجيهِ إلاّ أنّه لَم يتعارف استعمالها في الْخُصوصيات.
مطلبٌ: عَدَمُ تعيين الموضوع في بعضِ العلومِ ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ لُزومَ الموضوع والمبادئ والمسائل على الوجه الْمُقرَّرِ سابقاً إنّما هو في الصِّناعاتِ النظرية البُرْهانية، وأمّا في غيرها فقد يظهرُ كما في الفقه وأصُوله، وقد لا يظهرُ إلاّ بتَكَلُّفٍ كما في بعض الأدبيات، إذْ رُبّما تكون الصناعةُ عبارةً عن عدَّةِ أوضاعٍ واصطلاحاتٍ وتنبيهاتٍ مُتعلّقةٍ بأمْرٍ واحِدٍ بغيرِ أنْ يكون هُناك إثباتُ أعراضٍ ذاتيّةٍ لِمَوضوعٍ واحِدٍ بأدلّةٍ مَبنيّةٍ على مُقدِّماتٍ. هذه فائدةٌ جليلة ذكَرَها العلامةُ التفتازانِيُّ في شرحِ المقاصِدِ، يُنْتَفَعُ بِها في مواضِعَ.
منها: جوازُ أنْ يُحالَ تصويرُ المبادئ التَّصَوُّريّةِ في عِلْمِهِ في عِلْمٍ على عِلْمٍ آخر.
ومنها: جَعْلُ اللغة والتفسير والحديث وأمثالها عُلوماً إلى غير ذلك.
الخاتِمَةُ: واعلمْ أنّ الغرضَ من وَضْعِ هذا الكتاب، أنّ الإنسان لما كان مُحتاجاً إلى تكميل نفْسِهِ البشرية، والتكمِيل لا يَتِمُّ إلاّ بالعِلم بحقائقِ الأشياءِ، وبالعلمِ بكتابِ الله، وسُنَّةِ رسولهِ، وَجَبَ تعَلُّمُ تلك العلوم، وما هو كالوسيلة إليها، ولزِمَهُ أولاً العِلمُ بأنواع العلوم لِيتبَيَّنَ منها هذا الغرض، ثُمَّ أنّ العِلمَ بأصناف الكُتُبِ في نفسِها ومرتبتِها لِيكونَ على بصيرةٍ من أمْرِهِ، ويُقايِسَ بَيْنَ العلوم والكُتُب، فيَعْلَم أفضلَها وأوثَقَها، ويعلم حالَ العالِمِ بهِ، وحالَ مَنْ يدَّعِي عِلْماً مِن العلوم، ويكشف دعواه بأنّهُ هلْ يُخبرُ خبراً تفصِيلياًّ عن موضوع ذلك العلم، وغايتِهِ ومرتبتهِ، فيُحْسِنُ الظنَّ بهِ فِيما ادَّعاهُ، ويعلم حالَ الْمُصنَّفات أيضاً ومراتبَها وجلالةَ قدْرِها، والتفاوُتَ فيما بينَها وكثرتها، وفيه إرشادٌ إلى تحصيلِها، وتعريفٌ له بما يعتمِدُهُ منها، وتحذيرهُ مما يُخافُ من الاغترار به، ويعلم حالَ المؤلفين ووفياتهم وأعصارهم، ولو إجمالاً، فلا يقصر بالعالي في الجلالة عن درجته، ولا يرفع غيرَهُ عن مرتبته، ويُستفاد منه تشويقُ النفوس الزكية إلى الكَمَالاتِ الإنسانية، وتحريكُها إلى حُسْنِ الاقتداء والاقتفاء بإمرار النظر إلى آثار الأولين والآخرين، والفكر في أخبارهم، ولا يخفى أنّ الطِّبَاْعَ جُبِلَتْ على مُشاهدة الآثارِ، وتلقي الأخبار، سِيَّما الجديدة منها، فلا تَمِلُّ حِينئذٍ عَيْنٌ مِن نَظَرٍ، وأُذُنٌ من خَبَرٍ. نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ تالياً لِنعمةِ الإسلامِ، وهو حَسْبي ونِعم الوكيل، والهادي إلى سواء السبيل، مُجيبٌ قريبٌ عليه توكَّلْتُ وإليه أنيبُ
*****
لقراءة القسم الأول
اضغط هنا
******
لقراءة القسم الثاني
اضغط هنا
******
لقراءة القسم الثالث
*******
لتحميل كتاب كشف الظنون
اضغط هنا
******
Launch in external player |