المعمار الإسلامي العثماني في الدور الأول المسمى دور بورصة أوبروسة في عهد السلطان محمد جلبي  -4
جريدة الحياة؛17-9-2007، الصفحة:21 . د. محمود السيد الدغيم *اضغط هنا*

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن
أثبتت التجارب الإنسانية أن الحضارة الإسلامية هي أرقى وأنضجُ وأنفع حضارةٍ عرفتها الإنسانية عبر التاريخ، والشريعة الإسلامية هي الضّمان الصالح لإحقاق حقوق الإنسان، وتتضمّن الشريعةُ منهاجاَ واضحاً لإنقاذ الإنسان من الظلم والعدوان، كما تتضمن الضوابط اللازمة لإنقاذ الإنسان من جنون القوة والغطرسة والتجني ولوكره المُنافقون، والدليل على ما نقول هوما قدمه المُسلمون للعالم من أنشطةٍ وفعاليات في كافة أصول وفروع العلوم والمعارف النقلية والعقلية مما أدى إلى ازدهار العمران في البلدان التي انتشر فيها الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وما زالت الشواهد ظاهرة في بقاع الأرض التي فتحها المسلمون عبر التاريخ رغم الدمار الذي ألحقه أعداء الإسلام بالحضارة الإسلامية على كلِ صعيدٍ طالتهُ أيدي الحاقدين .

ومن منجزات الحضارة الإسلامية المنجزات العمرانية العثمانية التي مازالت تشكل شواهد حيّة على مواكبة الأنشطة العمرانية للأنشطة العسكرية، ومازالت الأبنية الباقية من الدور العمراني العثماني الأول الذي سُمي دور بورصة تنطقُ بما يثبتُ تلازم القوة العمرانية مع القوة العسكرية. وعودة السلطنة العثمانية بعد انهيارها جرّاء عدوان تيمورلنك هودليل على حيوية تلك السلطنة

فقد توفي السلطان أبايزيد الأول أسيراً في سجن تيمور لينك في مدينة أكشهر قرب مدينة قونيا التركية وكان عمره 43 سنة، وبعد ذلك تراجع العمران، وتمزقت السلطنة العثمانية، وانسحب سليمان بن السلطان أبايزيد من الميدان، وذهب إلى مدينة أدرنة، وأعلن سلطنته، وسُمي السلطان سليمان الأول، وتمزقت بلاد الأناضول، فأعيد إحياء إمارات الطوائف في قرامان، وآيدن، وصاروخان، ومنتشي، وقرميان، وجاندارلي، وتكِّي، وتفضّل تيمور لينك على محمد جلبي بن بايزيد الأول بإمارة آماصيا وإمارة طوقات في الأناضول، وترك امارة بورصة لعيسى جلبي بن بايزيد الأول، وتصارع الأخوان على المُلك فانتصر محمد جلبي على أخيه عيسى جلبي، فنحاه عن أمارة بورصة وقتله، ووحد الإمارتين في امارة واحدة.
ومع إقامة السلطان سليمان الأول بن أبايزيد الأول في أدرنة انتهى دور بورصة كعاصمة للسلطنة العثمانية بعد ستٍ وسبعين سنة وأربعة أشهر، وبدأ دور مدينة أدرنة كعاصمة جديدة من سنة 1402 م  واستمرّ حتى سنة 1453 م، وفي تلك الفترة شهدت مدينة أدرنة نهضة عمرانية رائعة مازالت أثارها تشهد بذلك .
واتسمت فترة حكم السلطان سليمان الأول بسِمَة الصراع الدموي الداخلي حيث عارضه أخوه محمد جلبي، وأخوه موسى جلبي، وأسفر الصراع عن العديد من المعارك بين الأخوة من ناحية، وبينهم وبين أعدائهم من ناحية أخرى، حتى جاءت سنة 1410 م، فدارت معركة على الأراضي الأوربية أسفرت عن مصرع السلطان سليمان، وانتصار أخيه موسى جلبي الذي أعلن نفسه سلطاناً على أدرنة والقسم الأوربي، وتنكر لأخيه محمد جلبي أمير الأناضول؛ فبدأ الصراع بينهما، ودارت عدة معارك كانت أخرها معركة (تشامورلودربند) في جنوب شرقي صوفيا عاصمة بلغاريا، وأسفرت المعركة عن مقتل موسى جلبي بعدما تسلطن ثلاث سنوات.
وقام محمد جلبي الأول بتوحيد أراضي السلطنة العثمانية في أوربا وآسيا، وبدأ بضم الإمارات المُنشقة التي أحياها تيمور لينك، وتم له ذلك سلماً وحربا، وعندما قويت دولته فرض سلطته على جزيرة رودس، وجنوة، وقاوم إمارة البندقية، وخاض الأسطول العثماني معركة (جنق قلعة) ضد اسطول البندقية سنة 819 ه / 1416 م.
خاف الأوربيون من عودة قوة السلطنة العثمانية، وأصبح سيغموند إمبراطورا في ألمانيا، وساندته المجر والهرسك فوجَّه جيشه ضد العثمانيين، فتصدى له المُجاهد اسحق بيك، ووقعت معركة "ديبوي" في شمال البوسنة، فهُزم الأوربيون، وانتصر العثمانيون، فأعلن دوق الهرسك خضوعه للسلطان العثماني، وبدأ إعمار مدينة سراي البوسنة أي: سرايفولتكون مدينة إسلامية، وقاعدة للفتوحات، فتم تحوليها من قرية منسية إلى حاضرة إسلامية تحمل سمات المدينة الإسلامية بشكل كامل، واجتاز السلطان نهر الدانوب أي: الطونة شمالاً، فاستولى على رومانيا، واجتاحت قواته ميناء تريستا، ووصلت إلى  ترانسلفانيا بقيادة المجاهد اسحق بيك الذي استشهد هنالك.

وبعد سنوات الكفاح توفي السلطان محمد جلبي سنة 824 ه بعدما حكَم منفرداً سبع سنوات وتسعة أشهر وستةً وعشرين يوماً 7 سنة و6 أشهر و26 يوم، وكان له من العمر 39 سنة ونقل جثمانه إلى مدينة بورصة ودفن هناك في التربة المشهورة حتى الآن باسم (يشيل تربة) أي التربة الخضراء، وخلّف محمد جلبي ذكراً طيباً في نفوس المسلمين لاهتمامه بالحرمين الشريفين، فهوأول سلطان عثماني أرسل الهدية السنوية إلى أمير مكة المُكرمة، وتلك الهدية هي الصُرة، ورغم الحروب فقد شيد السلطان محمد جلبي العديد من الآثار المعمارية الإسلامية في شتى أنحاء السلطنة العثمانية.

ومن جملة أبنية الدَّور المعماري العثماني الأول؛ دَور بورصة الأبنية التي شُيّدت في عهد السلطان مُحمد جلبي الأول، ومازالت قائمة في مدينة أدرنة، ومدينة غاليبولي، ومدينة ديموتوقا. ويعتبر السلطان محمد جلبي الأول بمثابة المؤسس الثاني للسلطنة العثمانية بعد المؤسس الأول عثمان الأول، وقد ظهر التأثير الإيجابي لعهد السلطان محمد جلبي في المنجزات العمرانية العظمى التي أنجزها ولي عهده وخليفته السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الثاني فاتح القسطنطينية.
****

****
نشر في جريدة الحياة الصفحة: 21. في الخامس من شهر رمضان المبارك سنة 1428 هـ
 المبارك / 17 أيلول/ سبتمبر 2007
الجريدة ملف بي دي اف
اضغط icon Ramadan 4=16-9-2007-P21-Bayzit.pdf (230.49 KB)  هنا
****

****

Launch in external player

thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
17283459
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة