العنوان: سد الذرائع : دليل من أدلة أصول الفقه الإسلامي المختلف عليها، وكذلك عمل أهل المدينة
الكاتب: محمود السيد الدغيم
جريدة الحياة، العدد: 12580، الصفحة: 14
تاريخ النشر: 6 ربيع الثاني 1418 هـ/ 9 آب/ أغسطس 1997م
سد الذرائع
للذرائع معنى لغوي وآخر اصطلاحي
.أ - المعنى اللغوي: » الذراعُ: اليَدُ من المِرْفَقِ إلى أطراف الأصابع (...) وضاقَ باللأمرِ ذَرْعاً: عَجِزَ عن احتمالهِ.وذَرْعُ الانسانِ: طاقتُهُ التي يبلُغُها (...) والذريعة: الوسيلة، والجمع: الذرائع (...) وتَذَرَّعَ في كلامه: أوْسَعَ منهُ« “١”.وقوله تعالى “وضاق بهم ذرعاً” “سورة هود/ الآية: ٧٧”.»أي: طاقة ووسعاً.
والعرب تقول: - في التهديد - أقصدْ بذرعِكَ.أي: استَقِمْ بطاقتِكَ...« “٢”، »وذَرَعَ الرجُلُ في سَعْيهِ: إذ عدا فاستعانَ بيديه وحَرَّكَهُمها« “٣”
وبناء على هذا: يتضح لنا أن الذريعة مأخوذة من ذرع، وذرع يدلُّ على التحرك إلى الأمام والامتداد وما شابه ذلك.وورد في »لسان العرب« ان الذريعة تعني الوسيلة.والذريعة: السبب “٤”.
والذريعة: »ناقةٌ يتسترُ بها الرامي ثم يرمي الصيدَ« “٥”.
والذريعة: كل ما نتخذه وسيلة حتى نتوصل إلى غيره به.
نستنتج من المعنى اللغوي: ان فتح الذرائع هو فتح الطرق والمسالك كي تؤدي الى المقصود من دون تقييد بالنتائج المباحة، أو المحظورة، ونقيض فتح الذرائع هو سدُّ الذرائع حتى لا تؤدي الى الأعمال المباحة أو المحظورة.
نستطيع القول: إن الذرائع تؤدي الى الأفعال بأنواعها المادية أو المعنوية، ومن ناحية أخرى تُصَنَّفُ الأفعال باعتبار درجة حُسنِها وقُبْحِها.ويكون التوسُّلُ بفعلِ الخير إلى فعل الخير، وبفعل الشَّرّ الى فعل الشَّرِ. كما يُتوسَّلُ بفعل الشر إلى الخير “كالتبرع للأعمال الخيرية بالمال الحرام” ويُتوسَّلُ بالخير الى الشَّرِّ “كزراعة العنب والنخيل بغية صناعة الخمر” هذا من حيث المعنى اللغوي، فَفَتْحُ الذرائع يفرضُ ترك الأمور على سجيتها حتى يحصل الْمُتذرَّعُ إليه، من دون تدخُّلٍ خارجيٍّ. وأما سَدُّ الذرائع فيحصل بعدم مباشرة الذريعة منعاً لحصول المقصود - المُتَذَرَّعِ إليه - بوجودها، أو يحصل بمنع حصول مقصود الذريعة، ويكون ذلك بالحيلولة بحائل يَحُوْلُ دون حصول المقصود، ومثالُه: القانون الذي يحول بين القاضي والظلم، والإيمان الذي يحول بين المؤمن واستغلال الآخرين.
ب ـ المعنى الاصطلاحي، وهو نوعان: أصولي وفلسفي.
1 - الذرائع - عند الفلاسفة - في العصر الحديث تعني: الأداتية، أو الذرائعية »instrumentalism« »ويطلق لفظ الذرائعية على مذهب جون ديوي Dewey John “1859 - 1952م” ومذهب مدرسة شيكاغو Chicago وهو مذهب براغماتي (Pragmatique) يُقرِّرُ: أن كل نظرية فهي أداة أو ذريعة الى العمل، لا قيمة لها إلا إذا كان لها مردود عملي.
والعلة الذرائعية هي: الأداة أو الوسيلة لإحداث النتيجة كاليد التي هي أداة التنفيذ للإرادة العاقلة.
والمنطق الذرائعي هو: المنطق الذي يبني أحكامه على التجربة« “٦”
.والفكر في المذهب الفلسفي الذرائعي هو وسيلة للنجاح وذريعة اليه.»وتظهر الذرائعية في الوقت الحاضر في صورة المذهب الطبيعي التجريبي الذي يجمع بين الذاتية، ومناهضة الماركسية، ومناهضة الشيوعية.
أو تجمع بين الذرائعية والوضعية الجديدة« “٧”.
2 - للذرائع - في علم أصول الفقه - معنيان أحدهما عام والثاني خاص.
أ - المعنى العام: تشمل الذريعة كل شيء يستعمل وسيلة لشيء آخر مهما كان نوعه، وفتح الذرائع هو إجازة كل الوسائل بكافة صُوَرِها، وسدُّ الذرائع هو مَنْعُ كافة الوسائل كي لا تؤدي الى حصول الْمُتَذَرَّع به.
وبناء على هذا يكون فتحُ الذرائع طريقاً الى الطاعات، وسدُّها منعاً للمعاصي.
وبناء على هذا يمكن تصنيف الذرائع حسب الأحكام الشرعية مما يستوجب فتحها وسدها بحسب ما تؤدي اليه من حلال وحرام ومباح ومندوب ومحظور.لأن الذريعة وسيلة ووسيلة الحلال حلال، أما وسيلة الحرام فحرام.»فلما كانت المقاصدُ لا يتوصَّلُ اليها إلا بأسباب وطرقٍ تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهيتها، والمنع منها بحسب افضائها الى غاياتها وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والْقُرُبات في محبتها والاذن فيها بحسب إفضائها الى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل« “٨”.
وهكذا نجد أن المعنى العام يشبه المعنى اللغوي.
ب - معنى الذريعة الخاص: وهو المعنى الاصطلاحي المعتبر عند علماء أصول الفقه.
وهو: الذريعة - عند معتبريها: هي »الأمر الذي ظاهره الجواز، إذا قويت التهمة في التطرق به الى الممنوع« “٩”.
وحقيقة الذرائع: »التوسل بما هو مصلحة الى مفسدة« “10”.
وهذا التعريف خاص بالذرائع المحرَّمة، لذلك نرى أن التعريف الأفضل هو: ان الذريعة: »ما كان وسيلة وطريقة الى الشيء« “١١”، لذلك شُرِعَ فَتْحُ الذرائع لإحلال الحلال، وشُرِعَ سدُّها لتحريم الحرام.
والغاية من فتح الذرائع هي: الوصول الى المصلحة، أما الغاية من سد الذرائع فهي: الحيلولة دون الوصول الى المفسدة.
لذلك قيل: »ان الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويُكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة.فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة« “12”. -
حجية سد الذرائع: وهي معتبرة عند المالكية والحنابلة وغير معتبرة عند الأحناف والشافعية.
وقد استند القائلون باعتبار سد الذرائع على: أن للأعمال غايات وأهدافاً، لا تخرج عن ثلاثة أنواع.
1 - العبث المجرد عن الغاية والهدف: وهذا يدخل في باب اللغو والعبث الذي يصرف الشخص عن القيام بواجباته، ولا يؤدي الى فــوات مصلحة أو جلب مفسدة.
2 - المصلحة: وهي ما يقتضيه الواجب للحصول على المنفعة والخير، وجلب المصلحة مُسْتَحَبٌّ ويدخل في باب فتح الذرائع.
3 - المفسدة: وهي ما يجب اجتنابه لأنه شرٌّ مكروهٌ يدخل في باب سَدِّ الذرائع. وبناء على ما سبق نستطيع القول: ان اباحة الشيء تقتضي اباحة وسائله وذرائعه، وتحريم الشيء يقتضي تحريم وســـائله وذرائعه.
ومن هنا كانت اباحة ما يؤدي الى الحلال فتحاً للذرائع، وكان تحــــريم ما يؤدي الى الحرام سداً للذرائع.وهذا مُؤَيَّدٌ بالأحكام المنقولة والمعقولة.
لم يذكر الأحنافُ والشافعية الذرائع في كتبهم في أصول الفقه كنوع من أنواع الأدلة الشرعية أو العقلية، لكننا نَعْلَمُ أن الأحناف أقروا الاستحسان، ومن خلال المقارنة بين صور الاستحسان عند الأحناف، وصور سد الذرائع عند المالكية يتضح لنا أن ما اعتبره الأحنافُ استحساناً - في بعض الحالات - اعتبره المالكية سداً للذرائع، ووجه الخلاف لا يتعدى الاختلاف اللفظي.
ومثال ذلك: - تحريم اللمس والتقبيل على المعتكف لأن ذلك يؤدي الى الْجِماع المحرَّم أثناء الاعتكاف.وتحريم هذا ليس إلا من باب سد الذرائع، وإن اختلفت الأسماء والمصطلحات.
كراهية اتباع صوم رمضان بصوم ستٍّ من شوال من غير فاصل، وهذا ما قال به المالكية سدّاً للذرائع. زاد الشافعية على الأحناف استنكار سدِّ الذرائع، لكنهم أقروا أموراً لا تختلف عن سد الذرائع، ومثال ذلك: - استحباب اخفاء صلاة الظهر للمرضى والمسافرين يوم الجمعة » لئلا يُتَّهموا في الدين، ويُنسبوا إلى ترك الجماعة تهاوُناً، قال جمهور الأصحاب: هذا إذا كان عذرهم خفيّاً، فإن كان ظاهراً، لم يُسْتحب الاخفاء.لأنهم يتهمون حينئذ.
ومنهم من قال: يستحب الاخفاء مُطلقاً، عملاً بظاهر نصِّهِ، لأنه قد لا يفطن للعذر الظاهر« “13”.ويلاحظ ان هذا ليس إلا من باب الاستحباب الذي هو سدٌّ لذريعة التهمة التي تلحقهم جراء ترك صلاة الجمعة.
بناء على ما تقدم نستطيع القول: ان المذاهب الاسلامية السنية الأربعة المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، أخذت بــــسد الذرائع بـشكل متفاوت حيث توسع المالكية والحنابلة باعتبار سد الذرائع، وذكروا سد الذرائع في كتبهم الأصولية كدليل من الأدلة، لكن الأحناف أوردوا ســـد الذرائع في باب الاستحسان، أما الشافعية فهاجموا واستنكروا سد الذرائع لأنه مـــن مـــظاهر الاجتهاد بالرأي، لكنهم اعتبروا ما اعتبره الآخرون من باب سد الذرائع.
الراجح: ان سد الذرائع دليل معتبر في الشريعة الاسلامية التي تربط الفعل بمآلِ ما يؤول إليه الفعل.
عمل أهل المدينة
7 - عمل أهل المدينة: هو ما تناقله أهل المدينة المنورة من السُّنَّةِ النبوية، وما طبَّقوه من أعمال، ولم يختلفوا فيه، فأصبح بمثابة اجماعهم، وذلك الإجماع مُعْتَبَرٌ عند المالكية، ومردودٌ عند غيرهم لأن أهل المدينة هم بعض الأمة، والإجماع هو إجماع علماء الأمة في كل عصر، فإذا انفرد علماء بلد فأجمعوا على أمر ما وعارضهم علماء بقية البلدان، فالراجح عدم اعتبار اجماعهم أو ترجيحه.لأن »اجماع أهل المدينة على انفرادهم لا يكون حجة عندنا - الشافعية - وقال مالك: إذا أجمع أهل المدينة على شيء لم يُعْتَد بخلاف غيرهم (...) وقال بعضهم: أراد بذلك في زمان الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين.
وأما مَنْ نَصَرَ قولَ مالك على الاطلاق، تَعَلّقَ بقوله - صلى الله عليه وسلم - “المدينة طيبة، وانها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبثَ الحديد” قال: والخطأ من الخبث، فكان مُنتفياً عن أهل المدينة...”14”. وايراد هذا الحديث مردود عليه حيث »فإن دلَّ على خلوص المدينة عن الْخَبَثِ، فليس فيه ما يدلُّ على أنَّ مَنْ كان خارجاً عنها لا يكون خالصاً عن الخبث، ولا على كونِ إجماع أهل المدينة دونهُ حُجَّةً.وتخصيصه للمدينة بالذكر انما كان اظهاراً لشرفها، وإبانةً لِخَطَرِها، وتمييزاً لها عن غيرها لما اشتملت عليه من الصفات...« “15”. ان ما ينطبق على أهل المدينة المنورة من أجيال الصحابة والتابعين ينطبق على أجيال الصحابة والتابعين من سكان المدن والأقطار الأخرى، لأن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية يقوم على النظر والبحث والاستدلال، وهذه أمور لا تختلف باختلاف المواقع الجغرافية.
وبناء على ما سبق: لا يمكن اعتبار عمل أهل المدينة حُجَّة إذا خالفوا بقية سكان الأقطار في عصر من العصور، وكذلك إجماع العِترة غير معتبر لأنه غير موجود أصلاً رغم ادعاءات أهل الأهواء والزيغ.
مصادر البحث
١ - المصباح المنير، الفيومي 1/802.
٢ - عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ص184.
٣ - مجمل اللغة، ابن فارس، 2/357.
٤ - لسان العرب، ابن منظور، مادة ذرع.
5 - المعجم الوسيط، 1/411
6 - مجمل اللغة، 2/356.
7 - المعجم الفلسفي، جميل صليبا 1/587.
8 - الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم ص: 217.طبعة دار الطليعة.
9 - اعلام الموقعين، ابن قيم الجوزيه 3/119 - 120.
10 - الاشراف على مسائل الخلاف، للقاضي عبدالوهاب المالكي ١/275.
1١ - الموافقات للشاطبي 4/198 تعليق دراز.
12 - اعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، 3/120.
13- الفروق، القرافي، 2/32.
14 - المجموع للنووي، 4/٣٦٣.
عمل أهل المدينة
15 - صحيح مسلم، كتاب الحج 784، 884 وسنن الترمذي كتاب الحج، ومسند أحمد 1/783، 2/732، 3/292.
16 - قواطع الادلة، منصور السمعاني، الورقة 169/ب.
17- الاحكام، الآمدي، 1/221.
12580 “الحياة”...........عام “العنوان: سد الذرائع : من أدلة الفقه المختلف عليها “