العنوان: تطور علم أصول الفقه في صدر الإسلام . جُمِع القرآنُ ووُحِّدَت القراءاتُ في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه
الكاتب: محمود السيد الدغيم – الحلقة الرابعة
جريدة الحياة، العدد: 13603، الصفحة: 21
تاريخ النشر: 7 صفر الخير سنة 1421 هـ/ 9 حزيران/ يونيو 2000م
************
بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي الصبح »يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقينَ من ذي الحجة - ... - فلما كبَّر طعنه أبو لؤلؤة الفارسي (المجوسي الذي يزوره الباطنيون حاليا في مدينة كاشان الفارسية الايرانية) ثلاث طعنات في وتينِهِ. فقال عمر: قتلني الخبيث...« - السيرة النبوية لابن حبّان ص:٥٩٤ - . كان ذلك في سنة ٣٢هـ/٤٤٦م، وعلى رغم الطعنات القاتلة صلى صلاةَ الصبح، وأوصى بالمسلمين خيراً »ثم قال: إني نظرتُ في أمر الناس فلم أرَ عندهم شقاقاً إلا أن يكون فيكم. وإنَّ الأمرَ الى السِّتَّة نفر: عثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبيد الله، والزبير بن العوام، فتشاوروا ثلاثاً...« - ابن حبّان ص:٦٩٤. وتمهيد الأوائل ص: ٥٠٥-٩١٥ - و»اشتور أهلُ الحلِّ والعَقْدِ بعْدَ عُمَرَ ثلاثة أيام، واتفقوا على مُبايعة أمير المؤمنين عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه...« - دول الإسلام، الذهبي ص:٩١ - . بعدما أصبح عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خليفة أرسل الى عمال الخراج؛ فكتب إليهم: »أما بعد فإنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ بالحقِّ، فلا يَقْبَلُ إلا بالحقِّ، خُذُوا الحقَّ، وأَعطوا الحقَّ به، الأمانة؛ الأمانة؛ قوموا عليها ولا تكونوا أوّل من يسلبها، والوفاء؛ الوفاء؛ لا تظلموا اليتيمَ ولا المُعاهدَ. فإن الله خصمٌ لمن ظلمهم«. - تاريخ الطبري ج٥/ص٤٤ - .
وقيل: أول ما كتبَ عثمانُ إلى عُمالِهِ: »أما بعد: فإن الله أَمَرَ الأئمة أن يكونوا رعاةً، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جُباةً. وإنَّ صَدْرَ هذه الأمة خُلقوا رُعاةً. لم يُخلَقوا جُباة...« - الطبري ج٥/ص٤٤ - . تؤكد مكاتيبَ الخليفة الراشد الثالث التزامه تطبيق السُّنّة، وكان نص بيعتِهِ على لسان عبدالرحمن بن عوف الزُّهري - رضي الله عنه - ، الذي قال: »أما بعد: فإني نظرتُ في أحوالِ الناس، وشاورتُهم فلم أجدهم يُعْدَلون بعثمان. ثم قال: يا عثمان نُبايعُكَ على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخليفتين من بعدِهِ. قال عثمان: نعم. فبايعه عبدُ الرحمن، وبايعهُ المُهاجرون والأنصارُ وأُمراءُ الأجناد والمسلمون، وذلك لغُرَّة شهرِ المُحَرَّم« - السيرة النبوية لابن حبّان ص:٠٠٥ - .
سار الخليفة عثمانُ - رضي الله عنه - على طريق الهُدَى والرشاد، فتمسك بالتقوى، وتحرى العدلَ، وتابع الجهاد في سبيل الله. ففتح مدينة الرَّيْ »وفتح من الروم حصوناً كثيرة« - تاريخ الخلفاء ص:٢٧١ للسيوفي - وتابع الفتوحات »ففي سنة ٧٢هـ/٨٤٦م غزا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قُبرس، فركب البحر بالجيوش - ... - وفيها فُتحت أرجان - ... - وافريقيا...« - تاريخ الخلفاء ص: ٣٧١ - . وفي سنة ثلاثين فُتحت خراسان ونيسابور وما حولهما، وفتحت الحبشة سنة ٣٣هـ/٣٥٦م »ولما فُتحت هذه البلاد الواسعة كَثُرَ الخراجُ على عثمانَ، وأتاه المال من كل وجه حتى اتخذ له الخزائن، وأَدَرّ الأرزاق...« - تاريخ الخلفاء ص: ٤٧١ - .
إن الأوضاع الجديدة تطلبت اجتهاد الخليفة عثمان - رضي الله عنه - فأقطع القطائع، وحمى الحمى، وأمر بالأذان الأول في الجمعة، وفوَّض الى الناسِ إخراجَ زكاتِهم، واتخذَ صاحبَ شُرطة، وأمر بتخصيص معاش للمؤذنين، وهو »أوّلُ مَنْ جمع الناس على حرف واحد في قراءة القرآن الكريم« - تاريخ الخلفاء، ص:٣٨١ - . يعتبر عهد أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - عهد الرفاه والحضارة إذ تعددت مصادر الرزق مع اتساع دار الإسلام، وكان عثمان غنياً في الجاهلية والإسلام، واجتهد فأداه اجتهاده الى الأخذ بقوله تعالى: ]قُلْ مَنْ حَرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيباتِ مِنَ الرزق[ - سورة الأعراف: من الآية ٢٣ - . وبناءً على الأخذ بهذه الآية الكريمة وَسَّع عثمان رضي الله عنه على الناس، فَمَلَكَ الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - الضياع، وبَنَوا البيوت الفخمة في الحجاز والشام ومصر والعراق، وتعدّدت مساكنُ الواحد منهم، وكانت مكاسبَهم من طُرُقِ الحلال، ولذلك »لم يكن ذلك مَنْعِيّاً عليهم في دِينهم، إذ هي أموالٌ حلالٌ لأنها غنائِمُ وفُيُوءٌ، ولم يكن تصرفُهم فيها بإسراف إنما كانوا على قَصْدٍ في أحوالهم، كما قُلناهُ، فلم يكن ذلك بقادحٍ فيهم؛ وإن كان الاستكثارُ مِنَ الدنيا مذموماً فإنما يرجع الى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد. وإذا كان حالُهُم قَصْداً ونفقاتُهم في سُبُلِ الحقّ ومذاهبه، كان ذلك الاستثكار عوناً لهم على طُرق الحق، واكتساب الدار الآخرة...« - مقدمة ابن خلدون ص: ٥٠٢ -
من اجتهاداته اعتبر عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أراضي الصوافي فيئاً للمجاهدين حيث منحهم أربعة أخماسها، ووضع الخُمْسَ في بيت مال المسلمين - تاريخ الطبري ج٤/ص ١٣- ٢٣ - . ولكن المجاهدين تركوا إدارة أرض الصوافي للوُلاة والأمراء على أن يوزع إنتاجها على المجاهدين، ولذلك منع عمر رضي الله عنه بيع أراضي الصوافي - تاريخ الطبري ج٤/ص٢٣- ٣٣ - .
اتسعت بلاد الإسلام في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ٣١هـ - ٤٣٦م - - ٣٢هـ - ٣٤٦م - واجتهد في مسألة أراضي الصوافي وأداه اجتهادُه الى اعتبارِ توزيعها من حقه حيث اعتبرها خاضعة لأحكام بيت مال المسلمين، ورأى عثمان - رضي الله عنه - أنّ عمارةَ الأرض وحراثتها »أردُّ على المسلمين، وأوفر لخراجهم من تعطيلها، فأعطاها مَنْ رأى إعطاءَه على أن يَعْمُروها كما يعمرها غيرُهم، ويؤدوا عنها ما يجب للمسلمين عليهم...« - الأموال، ابن سلام ص: ٢٦٢
لم تكن غايةُ عثمانَ - رضي الله عنه - مخالفةَ الذين قبلَهُ، وإنما تغيرت الأحوال في زمانه فاتساع الأرض وتنوعها من أراض بعلية ومروية ومغمورة بالماء ومهجورة وسائبة. ذلك التنوع تطلّب أحكاماً شرعية استند إليها اقطاعُ عثمان - رضي الله عنه - أراضي الصوافي لأصحابه إذ »أَقْطَعَ الزبيرَ وخباب وابن مسعود وابن ياسر...« وغيرهم - تاريخ الطبري ج٣/ص:٩٨٥ - . ولم يُنكروا عليه ذلك، فاعتبرت موافقتهم إجماعاً. وكُتُبُ التاريخ تُورِدُ أسماء صحابة آخرين أقطعهم الخليفة عثمان أراضي من الصوافي. - كتاب الخراج أبو يوسف ص:٢٦، وفتوح البلدان للبلاذري ص: ٥٣٣، وسنن البيهقي ج٦ /ص:٥٤١، وتاريخ بغداد للخطيب ج١ /ص٩١- ٠٢ - . وكانت غايةُ الخليفة من إقطاع أراضي الصوافي تعمير تلك الأراضي لأن تعميرَها »أردُّ على المسلمين، وأوفر لخراجِهم من تعطيلها، شريطة أن يُؤدوا حصَّةَ بيت المال« - الأموال، ابن سلام ص: ١٦٢- ٢٦٢ - . ولم يتوقف ذلك الأمر عند ذلك الحد بل سمح عثمان بمبادلة أراضي الصوافي بأراض أخرى عن تراض، كما كان يشتري أراضي لبيت المال وذلك بدفع ثمنها الى مالكها الأصلي - تاريخ الطبري ج٤/ ص١٨٢
واستمر إقطاع أراضي الصوافي في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - - تاريخ الطبري ج٣/ص:٩٨٥ - . كما استمر في عهد الخلفاء الأمويين - تاريخ دمشق، ابن عساكر ج٢ ق١/ص:٥٤١
مما يدل على سُؤْدُدِ رأي أمير المؤمنين عثمان وصواب الإجماع على إقطاع أراضي الصوافي
توريث المبتوتة في مرض الموت : رُوي أن عبدالرحمن بن عوف طلّق امرأته في مرض موته، فورَّثها عثمانُ - رضي الله عنه - وقال: فَرَّ مِنْ كتاب الله. وكان ذلك بمحضر مِنَ الصحابة من غير نكير. فكان إجماعاً منهم على ذلك«. - ايثار الانصاف سبط ابن الجوزي/ ص:٩٦١، ٩٧١ - .
وهذا يعني: أن اجتهاد عثمان أداه الى اعتبار طلاق الرجل في مرض الموت من أنواع الفرار ممّا يترتب للزوجة من حقوق الميراث التي نصّ عليها الشرع الإسلامي، إذ جاء في القرآن الكريم قوله تعالى ]ولَهُنَّ الربع مما تركتم[ - سورة النساء، من الآية: ٢١ - . ولذلك مَنَحَ عثمان زوجة عبدالرحمن بن عوف رُبْعَ ماله عملاً بالنص القرآني. ولم يعتبر طلاقَهُ طلاقاً شرعياً. وإنما اعتبره فراراً من الحكم المستنبط من النص القرآني. وفي هذه الحادثة نقف على قضيتين من قضايا أصول الفقه هما اجتهاد الخليفة عثمان - رضي الله عنه - ؛ والإجماع على ترجيح اجتهاده لأن الصحابة لم يُنكروا اجتهاده.
وهذا نموذج من نماذج أصول الفقه الإسلامي في ذلك العهد إذ كان يُطبّق الفقه عملياً على صعيد الواقع قبل تدوينه
ومن صور اجتهاده ترجيحه بين النصوص القرآنية، في مسألة »نكاح الأخت في عدّةِ الأختِ عن طلاق بائن، أو ثلاث، أو نكاح فاسد...« - إيثار الانصاف ص:٨٣١- ٩٣١ - . إذ » روي عن عثمان أنه قال: أحلَّتْها آية. وحَرَّمتها آية. والتحريم أولى« - ايثار الانصاف ص: ٩٣١ - . والآية المحلّلة قوله تعالى: ]أو ما ملكت أيمانكم[ - سورة النساء، من الآية: ٣ - . والآية المحرِّمة قوله تعالى: ]وأن تجمعوا بين الأُختين[ - سورة النساء من الآية: ٣٢
وهكذا نجد أن الخليفة عثمان رجح التحريم لأنه أرجح في هذه المسألة
ومن صور اجتهاد الخليفة عثمان مسألة جمع القرآن واعتماد المُصحف الذي سمي في الزمن اللاحق: المصحف الإمام. وهو لم يكن أول من جمع القرآن. لكنه هو أول من ألزم الأمصار اعتماد المصحف الذي أجمع الصحابة على صحّتِهِ.وقد مرّ جمع القرآن بالمراحل الآتية:
١- جُمِعَ القرآن الكريم في عهد النبي - محمد صلى الله عليه وسلم - بطريقتين هما الحفظ والكتابة.
آ- الجمع بالحفظ: أي بالحفظ المُتقن، وأول مَنْ حَفِظ القرآن الكريم هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم - وكان الصحابة يحفظون القرآن الكريم. ولكن بعضَ الحُفّاظِ لم يتمكّنوا من عَرْضِ حفظِهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء لم يذكُرهم المُحَدِّثون والمؤرخون؛ واقتصروا على ذِكرِ أسماء الذين حفظوا القرآن كُلَّهُ وعَرَضُوهُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ: الخلفاء الراشدون الأربعة أمراء المؤمنين : »أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب.
وحفظه من الصحابة الأبرار: طلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وحُذيفة بن اليَمَان، وسالم، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبدالله بن السائب، وأُبَيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، ومجمع بن حارثة، وأمهات المؤمنين: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، رضي الله عنهم جميعاً«. - كتاب المدخل الى أصول الفقه، شعبان اسماعيل ج١/ ص:٢٢٢
عن هؤلاء الحفاظ أخذ عدد كبيرٌ من الصحابة والتابعين في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والبصرة، والشام وغير ذلك من بلاد الإسلام. - التحبير، السيوطي ص: ١٥١- ١٥١
ب- الجمع بالكتابة: كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أمياً لم يتعلم الكتابة، ولذلك اتخذ كُتَّاباً يكتبون له ما يُريد كتابته. »وكان أُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت يكتبان الوحي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم. ويكتبان كُتُبَه الى الناس...« - تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ص: ١٨١ - . ومن الذين كتبوا القرآن الكريم »بين يَدَي الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأَبّان بن سعيد بن العاص، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس، وغير هؤلاء...« - المدخل، شعبان اسماعيل، ج١/٤٢٢ - . فقد كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن الأرقم الزُّهري - تخريج الدلالات السمعية ص: ١٨١ - . وخالد بن سعيد بن العاص، - المصدر السابق نفسه ص: ٤٧١ - . وعبدالله بن سعد بن أبي سرح - المصدر السابق نفسه، ص ٩٧١ - ٠٨١
تفاوتت درجات كُتّاب الوحي، يأتي في المقدمة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم زيد بن ثابت، وأبي بن كعب. »وكان زيد ألزم الصحابة لِكتابِ الوحي. وكان أُبي وزيد يكتبان الوحي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ... - فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كَتَبَ من حضر من الكُتّاب...« - تخريج السمعية ص: ١٧١
إن ما كتبه هؤلاء من القرآن الكريم بقي متفرِّقاً في الأدوات التي كتبوا عليها، من عُسُب النخيل، وألواحِ الحجارةِ، والجلود، والعظام. ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمع القرآن في كتاب واحد، لأن القرآن نَزَلَ مُنجّماً. أي: مُتَفرّقاً. وفيه الناسخ والمنسوخ، وترتيب سياق السُّورِ والآيات كان توقيفياً يقتصر على ما يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإضافة الى ما سبق كان الاهتمام موجهاً الى حفظ القرآن بالصدور، لا إلى كتابته في السطور، وسبب ذلك أن الحفظَ ممكنٌُ للأُميين والكُتّاب أما الجمع في السطور فيقتصر على عدد من الذين يتقنون القراءة والكتابة. وإضافة الى ما سبق إن الفترة الفاصلة بين نزول آخر القرآن ووفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت قصيرة جداً.
٢- جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وقعت حرب اليمامة سنة ٢١ هـ/٣٣٦م بين المسلمين والمرتدين، وكانت أشرس معاركها معركة عَقرَبَة التي انتهت في »حديقة الموت« التي شهدت مصرع مسيلمة الكذاب والمرتدين. واستشهد عدد كبير من الصحابة بينهم »سبعون« - كتاب الجامع ص: ٠٠٣ - من حُفّاظ القرآن. بعد حرب اليمامة أشار عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر الصديق بجمع القرآن الكريم وكتابته خشية ضياعه فكلّف الخليفةُ زيدَ بن ثابت بجمع القرآن فجمعه من الرِّقاع ومن الحُفَّاظ ودوّنه في صُحُف سلمها الى الخليفة أبي بكر فبقيت عنده حتى وفاته، ثم انتقلت الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فبقيت عنده حتى استشهد فحُفِظَتْ عند ابنته حَفْصَة أم المؤمنين. وبقيت عندها حتى طلبها منها الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - .
٣- جمع القرآن الكريم في عهد عثمان. جُمعَ القرآن الكريم خشيةَ انقراض الحفّاظ في أيام الخليفة أبي بكر الصديق. وفي أيام عثمان - رضي الله عنه - ظهرت فتنةٌ كبرى سبّبها اختلاف القراءات التي اشتهرت في البلدان الإسلامية حيث تعصّب الطلاب لأساتذتهم من الصحابة، وعمّت فتنة الخلاف. فأخذ أهل الشام بقراءة أُبي بن كعب وأخذ بعض أهل الكوفة بقراءة عبدالله بن مسعود - مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة: ج٢/١١ - . وبعضهم الآخر أخذ بقراءة أبي موسى الأشعري، كما أخذ بقراءته أهل البصرة - مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة ج٢/٢١ - .
وتعددت القراءات وظهر التعصُّب حتى وصل الحجاز، فجَمَعَ الخليفة عثمان بن عفان أعلام الصحابة، وطرح عليه رأيه الذي يقتضي استنساخ المصحف وإرسال نُسخٍ منه الى الأمصار، وحمل الناس على نص قرآني موحد. فوافقه أهل الحل والعقد فانعقد الإجماع على إقرار رأي الخليفة الذي أدّاه إليه اجتهاده لأن جمع القرآن وحمل البلاد على نصٍّ موحد يحقق مصلحة الأمة الإسلامية، ويدرأ عنها فتنة الخلاف والتناحُر.
وهذه المسألة تدل على اجتهاد عثمان وإجماع الصحابة على تأييده والأخذ برأيه. ومن هنا يتأكد اعتماد الإجماع والعمل بالشورى أيضاً، وكل ذلك من صميم أصول الفقه. شرع عثمان في تنفيذ رأيه في أواخر سنة ٤٢هـ - ٥٤٦م - وأوائل سنة ٥٢هـ - ٦٤٦م - حيث عهد بمهمة نسخ المصحف في نسخ عدة الى أربعة من الصحابة الحفّاظ، وهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام. واعتمد النُّساخ على الصحف التي جمعها أبو بكر وانتقلت الى عمر وكان النّساخ يعرضون ما يكتبون على حُفاظ الصحابة، الذين كانوا يُقرون ما يُستَنْسخ من آياتِ الذكر الحكيم. ويشهدون أن ما يُستنسخ عُرِض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر عرضة، ولم يُنْسَخْ، وكُتب القرآن خالياً من النقط والشكل كي تُقرأ على سبعة أحرف - أي: القراءات - لأن القراءات السبع - مفتاح السعادة ٢/٤٢- ١٥ - متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد اعتماد نص موحد في ثماني نسخ، أمر عثمان - رضي الله عنه - بإتلاف كافة النصوص الأخرى لحسم النزاع،
ومنع إدخال ما ليس من القرآن في القرآن كالتفسير الذي كان يُدونه الصحابة بين السطور. كما أمّن عملُ عثمان منعَ إدراج النصوص المنسوخة في سياق غير المنسوخ، وبذلك قدَّم عثمانُ - رضي الله عنه - للمسلمين خدمة جليلة تجلت في صيانة كتابهم عن التحريف والتزوير، ووصلنا القرآن بفضل ذلك العمل بصورة صحيحة ساهمت في توحيد الأمة الإسلامية على اعتماد كتاب واحد - تمهيد الأوائل ص: ٣٣٥، ومناهل العرفان ١/٨٤٢- ٦٥٢ - وأرسل الخليفة عثمان مصاحف الى مكة والشام والبصرة والكوفة واليمن والبحرين، واحتفظ بمصحف لنفسه سمّي المصحف الإمام، ووضع مصحفاً في المدينة المنورة.
يتضح مما سبق أن علم أصول الفقه كان موجوداً في عهد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذ مارس الخليفة الاجتهاد وأداهُ اجتهاده الى استنباط أحكام شرعية تم اعتمادها من قِبَلِ الفقهاء، لأنها مستنبطة بحسب الأصول الشرعية. وليست الأمثلة التي أوردناها هي كل ما استنبطه عثمان فهنالك مسائل أخرى - تمهيد الأوائل، ص: ٠٣٥- ٣٤٥ - .
على رغم الخدمات الجليلة التي قدمها الخليفة عثمان الى الإسلام والمسلمين، حَقَدَ عليه ضعاف الإيمان وتكاتفوا وهاجموا منزله وحاصروه ٩٤ يوماً، ثم قَتَلَهُ سَوْدان ان حِمران المُرادي - مشاهير علماء الأمصار، ص: ٣٢- ٤٢ - . وكان ذلك سنة ٥٣هـ - ٦٥٦م - »وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ذي الحجة...« - مشاهير علماء الأمصار، ص: ٤٢ - .
استشهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان وخلّف صوراً واضحة من اجتهاده تؤكد اعتباره من علماء أصول الفقه الأولين الذين اجتهدوا فأصابوا وأخذ اللاحقون الصالحون باجتهاده الذي أغنى أصول الفقه الإسلامي في مرحلة ما قبل التدوين.
محمود السيد الدغيم٭ زميل باحث في مركز الدراسات الإسلامية، كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن، ساواس.
18902 - الحياة - ...........عام - العنوان: تطور علم أصول الفقه في صدر الإسلام . جمع القرآن ووحدت القراءات
****
سلسلة تاريخ أصول الفقه الإسلامي
تاريخ أصول الفقه-1/7 |
تاريخ اصول الفقه-2/7 |
تاريخ أصول الفقه-3/7 |
تاريخ أصول الفقه-4/7 |
تاريخ أصول الفقه-5/7 |
تاريخ أصول الفقه-6/7 |