العنوان: أصول الفقه الإسلامي قبل التدوين : تطور قواعد الأصول في عهد الخلفاء الراشدين
الكاتب: محمود السيد الدغيم - الحلقة الثالثة
جريدة الحياة، العدد: 13589، الصفحة: 21
تاريخ النشر: 22 صفر الخير سنة 1421 هـ/ 26 أيار/ مايو 2000م

حينما كان يلتبس أمر ما على أحد الـمسلـمين في أيام النبي -صلى الله عليه وسلـم- كان يسأل النبي عن الحكم، فيجيبه بما أوحاه الله تعالى إليه من قرآن كريم، أو بما ألهمه من رأي حكيم، ولكن حياة النبي -صلى الله عليه وسلـم- لـم تدم فانتقل من الحياة الدنيا الى الحياة الأخرى في السنة الحادية عشرة للهجرة -٢٣٦م- وبدأ عصر جديد هو عصر الخلفاء الراشدين. وفي أيامهم تطورت الحياة العامة مما تطلب إصدار أحكام شرعية جديدة لـم ترد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، وتطلّب ذلك اجتهاد الـمجتهدين من أجل استنباط الأحكام التي لا تُعارض الشريعة. استعان الخلفاء الراشدون بآراء كبار الصحابة في عمليات استنباط الأحكام، لأن الصحابة هم أعرف الناس بتفسير القرآن الكريم، والصحابة هم رواة الحديث النبوي، وهم العارفون بالسنن التي طبقت في عصر البعثة، واستمر استفتاء الصحابة في عهود الخلفاء الراشدين، وفي العهد الأموي، واتسمت عهود الخلفاء الراشدين التقيّد بالشورى. آ -  أصول الفقه في عهد الصديق. كان أبو بكر الصديق أفضل صحابة النبي محمد -صلى الله عليه وسلـم- وهو أول من صدّق نبوّته من الرجال الأحرار، وصاحبه في هجرته من مكة الـمكرمة الى الـمدينة الـمنورة -يثرب- وَوَردَ ذكر ذلك في القرآن الكريم إذ جاء: ]فقد نَصَرَهُ اللهُ إذ أخرجَهُ الذين كفروا ثاني اثنين إذْ هُما في الغار إذْ يقولُ لصاحبه لا تحزنْ إنّ اللهَ معنا[ -سورة التوبة، من الآية: ٠٤-. ولازم أبو بكر الصديق النبيّ -صلى الله عليه وسلـم- في دار الهجرة أي: في الـمدينة الـمنورة مُدّة عشر سنوات تقريباً، وكان يُساعدهُ في الحرب والسلـم، وينوب عنه في بعض الأمور، إذ حجّ أبو بكر -رضي الله عنه- بالناس نيابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلـم-، وذلك في السنة التاسعة للهجرة -٠٣٦ للـميلاد-، وعندما مَرِضَ مَرَضَ الوفاة أمر أبا بكر ليؤمَّ الـمسلـمين بالصلاة، وبَشَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلـم- بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إذ قال لأُم الـمؤمنين حفصة  -  رضي الله عنها  -  »أُبشّرُكِ أنّ أبا بكر وعمر يملُكان بعدي أمر أمتي«. ولـما توفي سنة ١١هـ/٢٣٦م بايع الـمسلـمون الصديق بالخلافة، وخاطبوه بخليفة رسول الله، ودامت خلافته حتى وفاته في ١٢ جُمادى الثانية سنة ٣١ للهجرة الـموافق لـ٣٢/٧/٤٣٦م، فكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وهو ابن ثلاث وستين سنة. كرّس أبو بكر الصديق مبدأ الشورى في عهده، وبيّن أنه خليفة للرسول -صلى الله عليه وسلـم-، وليس خليفة لله، إذْ قال: »لست بخليفة الله على الأرض، ولكني خليفة رسول الله  -  صلى الله عليه وسلـم - «. -الأحكام السلطانية للـماوردي، ص:٤١-. واختطّ أبو بكر أسس أحكام الخلافة باعتبارها من الأحكام الفرعية الـمبنية على الأصول الشرعية القائمة على الشورى. ولـم يَقصُر الشورى على مسألة الخلافة فحسب بل كان يشاور أصحابه في أحكام الحوادث من أجل استنباط الأحكام الشرعية التي لا تعارض الكتاب والسنة. وأولى قضايا الشورى في عهده هي الخلافة، ومن القضايا الـمهمة قضية الـمرتدين الذين رفضوا إخراج زكاة أموالهم، وجحدوا فريضتها، فأجمع أهل الحل والعقد على قتالهم، ووضع حد لتلك الفتنة. جرت الشورى في الـمسائل التي لا نص فيها من القرآن والسنة، كما جرت الشورى والاجتهاد في تفسير النصوص الغامضة كنصوص العموم، والنصوص الـمطلقة. واعتُبر ذلك الاجتهاد من باب الرأي لأن الفتاوى القائمة على الاجتهاد قابلة للتغيير عند ظهور الدليل الأقوى. وتَغَيُّر الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمنة أمر وارد، كما أن تغيُّر الأحكام العرفية وارد بتغير الأمكنة أيضاً. ومن الأمور الطارئة في زمن الصديق -رضي الله عنه- جمعُ القرآن الكريم بعد معركة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة -٣٣٦م- وأُسنِدت مهمة الجمع الى زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وتم ترتيب سور القرآن الكريم وآياته في ذلك الـمصحف، بالأخذ بالروايات الـمتواترة عن كبار الحُفّاظ من الصحابة -رضي الله عنهم-. ومن أمثلة اجتهاد الصديق مسألة الجَدَّة التي جاءت إليه تسأله ميراثها في تركة وزّعها. قال أبو بكر رضي الله عنه  -  للجَدَّة  -  »لا أجدُ لك في كتاب الله شيئاً ولكن سأسألُ الناسَ«. فخرج وسأل الصحابة، وقال: »أيُّكم سَمِعَ من رسول الله شيئاً في الجَدَّة؟. فقال الـمُغيرة بن شعبة: نعم أعطاها رسول الله السُّدس. فقال له: أيعلـم ذلك أحد غيرك؟ فقال محمد بن مسلـمة: صَدق الـمُغيرة. فأعطاها أبو بكر  -  رضي الله عنه  -  نصيبها من الـميراث وهو السدس«. وما زال حق الجدة السدس من الـميراث بحسب الشريعة الإسلامية، التزاماً بما أقرّه الصديق -رضي الله عنه-. ومن أمثلة اجتهاده بخصوص الخلافة: وصيته لعمر -رضي الله عنه- بالخلافة. يتضح لنا أن الاجتهاد كان موجوداً في عهد الصديق وساد مبدأ الشورى. ولكن علـم أصول الفقه لـم يدوّن في عهده، شأنه في ذلك شأن غيره من العلوم الدينية والدنيوية  التي كانت تُمارَس من دون أن تدون في الكتب، كعلـم النحو، وعلـم العروض، وعلـم البلاغة، وغير ذلك. ب -  أصول الفقه في عهد عمر بن الخطاب. تولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخلافة بوصية من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، حيث أداه اجتهاده الى اختيار عمر للخلافة لأنه أكفأ الصحابة حينذاك لـمنصب الخلافة، واستمرت خلافته من سنة ٣١هـ -٤٣٦م- حتى سنة ٣٢هـ -٤٤٦م-. وكان ميلاد عمر سنة ٠٤ قبل الهجرة -٤٨٥م-، وكان إسلامه قبل الهجرة بخمس سنين وذلك في -٩١٦م-. وفي كتب الحديث النبوي ٧٣٥ حديثاً رواها عمر -رضي الله عنه-. لـم يكن اختيار أبي بكر عمر للخلافة اختياراً فردياً، وإنما استشار الصحابة في ذلك، ودليل ذلك قوله: »إني ما قصدتُ، وما ولّيتُ أحداً من قرابتي، وإنما ولّيتُ عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا«. -تاريخ الأمم: ١/٨ - ٧٩١-. وأولُ أعمال عمر بعدما تولى الخلافة دَعوتُهُ الى فتح بلاد الفرس والروم. وتحققت دعوته فوصلت حدود الدولة الإسلامية الى نهر جيحون شرقاً، وضمت سورية وأرمينيا  في الشمال، ومصر في افريقيا، فتعددت اللغات والأقوام والنِّحلُ والأديان ُ ضمن إطار الدولة الإسلامية، وبناء على ذلك طرأتْ قضايا جديدة استوجبت استنباطَ الأحكام الشرعية الجديدة، فنشط الاجتهادُ في أيامه وبرزت بوادر نشوء مدرسة فقهية أصولية تقوم على منهج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أصول الفقه الإسلامي. وخلّفت لنا تراثاً أصولياً أصيلاً ساهم في إغنائه عمر بن الخطاب وكبار الصحابة، وشمل استنباط الأحكام، جوانب الحياة الإنسانية كافة آنذاك. وجد أعداء الإسلام أن استمرار حياة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكل نصراً للإسلام، كما يشكل خطراً على نِحَلِهم الفاسدة، حيث فتح الـمسلـمون بلاد الـمجوس وغيرها »حتى قيل: انتصب في مدة خلافته اثنا عشر ألف منبر في الإسلام«، -الاعلام للزركلي: ٥/٥٤-. لذلك تآمر أعداء الإسلام على عمر فقتله »أبو لؤلؤة فيروز الفارسي الـمجوسي  -  غلام الـمغيرة بن شعبة  -  غيلةً بخنجر في خاصرته، وهو في صلاة الصبح، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليال«. -الاعلام: ٥/٥٤ - ٦٤-. وبذلك انتقم أعداء الإسلام من الخليفة الثاني ولكن الـمدرسة الأصولية العمرية لـم تمت بوفاته بل استمرت بالنمو والعطاء الإنساني الشرعي. كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعرض الحوادث على كتاب الله يلتمس حكماً شرعياً لها، فإن وجد الحكم أصدره فوراً، وإن لم يجد الحكم في القرآن الكريم، التمسـه في السنة النبويــة فإن وجده أصدر الحكم، وإن لـم يجده عقد مجلس أهل الحل والعقد من العلـماء، وعرض عليهم الحادثة الطارئة، فإن وجد الحكم لدى أحدهم، أو بعضهم أو كلهم، أصدر الحكم استناداً الى ذلك. أما إذا أعياه البحث، ولـم يجد حكماً في الكتاب والسنة اجتهد برأيه، واستشار أصحابه من أجل الوصول إلى إصدار حكم شرعي. باستقرائنا النصوص الفقهيــة والأحكام الشرعية نجد أن منهج الصحابة في استنباط الأحكام هو الذي شكل القاعدة الأساسية لعلـم أصول الفقه، إذ أن من الصحابة »من كان يجتهد في حدود الكتاب والسنة، ومنهم من كان يتجاوز تلك الحدود الى القياس غالباً، كعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أو من يتجاوز الى الـمصلحة في الغالب، مثل عمر رضي الله عنه -ت ٣٢هـ/٤٤٦م- -تاريخ الـمذاهب الإسلامية، أبو زهرة: ٢/٢٢-. إلى الكتاب والسنة، نجد ظهور، القياس والإجماع، إذ »كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله. وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس، وكانوا يعبرون عنه بالرأي...« -تاريخ التشريع للخضري، ص ٧٨ - ٨٨- وشمل اجتهاد الصحابة  -  أيضاً  -  »الاستحسان والبراءة الأصلية وسد الذرائع، والـمصالح الـمرسلة...« -تاريخ التشريع للسايس، ص:٠٨-. وكانوا يعتمدون على النظر في دلالات النصوص الشرعية الإسلامية، وإصدار رأي راجح بناء عليها. لـم يقتصر مجال أصول الفقه في عهد عمر -رضي الله عنه- على الشؤون الدينية بل تجاوزها الى الأمور الدنيوية فاستُنبطت أحكام جديدة لـم تستنبط قبل العهد العمري، ومثال ذلك أحكام البلاد الـمفتوحة. فالـمسلـمون في بادئ أمرهم فرضوا الجزية على أهل البلاد الـمفتوحة، وكانت الجزية نقداً أو نقداً وعيناً، فالرسول محمد -صلى الله عليه وسلـم- صالح أهل تيماء على الجزية، فأبقاهم في ديارهم »وبقيت أرضهم في أيديهم« -فتوح البلدان، ص:٠٤؛ والخراج، ص:٥٧-. كما صالح الرسول الـمصطفى محمد -صلى الله عليه وسلـم- أهالي تبالة وجرش، »وجعل على كل حالـم  -  بلغ الحلـم  -  ممن فيها من أهل الكتاب ديناراً، مع ضيافة الـمسلـمين« -فتوح البلدان، ص: ١٧-. وطبقت الجزية في البلدان الـمفتوحة في زمن البعثة النبوية واستمر دفعها في عهد الخليفة الأول وحينما فتح خالد بن الوليد مدينة بصرى الشام في أيام خلافة أبي بكر اتفق معهم على أخذ الجزية من أهلها حيث »إن أهل بصرى صالحوا خالد بن الوليد رضي الله عنه على أداء الجزية مقابل الأمان على دمائهم وأموالهم وأولادهم« -فتوح البلدان، ص: ٤٢١-. وكان مقدار تلك الجزية »ديناراً وجُريباً من حنطة على كل حالـم  -  بلغ الحلـم« -فتوح البلدان، ص:٠٥١-. وهذا يدل على أن الجزية كانت ديناراً من النقد، وجُريباً من الحنطة. ولا ذكر للخراج في تلك الـمعاهدات التي عقدها الفاتحون الـمسلـمون مع أهالي البلدان الـمفتوحة في جنوب سورية في أيام الخليفة الأول -تاريخ الطبري ج٣/٦٠٤؛ والخراج، ص:٩٧-. ولكن موضوع الجزية اختلف في عهد الخليفة الثاني الذي اجتهد فأداه اجتهاده الى تنوع الجزية في البلاد الـمفتوحة حين روعيت الحال الـمادية لدافعي الجزية من أهالي الريف فقدّر مبلغُ الجزية على قدر الطاقة، فأهالي حمص »صالح بعضهم على قدر طاقته. إن زاد زيد عليه. وإن نقص نقص« -تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر ج١/٠١٥-. ومثل صلح حمص كان صلح باقي الـمدن السورية. وخيَّر عمر بن الخطاب السكان في البلاد الـمفتوحة بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية والإقامة أو الرحيل. ووجدت تلك الخيارات من أخذ بها من سكان سورية حين أسلـم أكثرهم، وبعضهم دفع الجزية وبقي على دينه، وبعضهم رحل »إلى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج« -فتوح البلدان، ص: ٤٧١، ٧٧١، ٨٧٩-. ولكن الجزيرة فتحت سنة ٨١هـ -٩٣٦م- وسنة ٩١هـ -٠٤٦م- فوضع »عياض بن غنم الفهري على الجماجم   -  الرؤوس  -  بالجزيرة على كل جمجمة ديناراً ومدّي قمح وقسطي زيت، وقسطي خل، وجعلهم جميعاً طبقة واحدة«، -كتاب الخراج لأبي يوسف، ص١٤-. هكذا نجد أن موضوع الجزيرة خضع للتنظيم في أيام عمر. والذي ساق الى ذلك التنظيم هو اجتهاد الخليفة الراشد الثاني. وبرز خلاف في الرأي بين الخليفة عمر بن الخطاب وبين الـمجاهدين في ما يخص البلاد الـمفتوحة -٣١ -  ٣٢هـ/٤٣٦ -  ٣٤٦م- إذ رأى الـمجاهدون أن »البلاد الـمفتوحة غنيمة، تقسم بين الفاتحين دون سائر الـمسلـمين« -فتوح البلدان، ص: ٥٢-. واستندوا في ذلك الرأي على قوله تعالى: ]واعلـموا إنما غنمتم من شيء فان لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والـمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير[ -سورة الأنفال، الآية: ١٤-. وقاس الـمقاتلون على فتح خيبر سنة ٧ هـ -٨٢٦م- حين اعتبرها النبي -صلى الله عليه وسلـم- غنيمة وطبق في ذلك آية الغنائم -انظر: سنن البيهقي، ج٦/٧١٣؛ والخراج لقدامة، ص:٤٨-. ونظراً لعدم وجود عمال مسلـمين أمر الرسول -صلى الله عليه وسلـم- أهل خيبر على أرضهم وأعطاهم نصف الـموسم، ووزع النصف الباقي بحسب ما هو وارد في آية الغنائم -بداية الـمتجهد، ج٢/ص٥؛ والخراج لقدامة، ص:٥٨-. وتكرر الـموقف من قبل مقاتلة فتح العراق حين طلب الـمجاهدون من عمر أن يقسم ما أفاء الله عليهم من العراق والشام إذ قالوا: »أقسم الأرضين بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العسكر« -كتاب الخراج، أبو يوسف، ص:٣٢ -  ٤٢؛ والخراج لقدامة بن جعفر، ص:٧٨-. فرفض عمر واجتهد في قضية الأراضي الـمفتوحة في الشام والعراق وأداه اجتهاده الى الرد على الـمجاهدين بقوله: »لا. هذا عين الـمال -...- ولكن احتبسُه فيئاً يجري عليهم وعلى الـمسلـمين« -الخراج وصناعة الكتابة، قدامة بن جعفر ص:٩٥ - ٠٦-. والذي دفع عمر الى هذا الرأي هو الحرص على مصلحة الـمسلـمين عموماً وليس الحرص على مصلحة الـمجاهدين وحدهم من دون غيرهم. وهكذا أُلغيت فكرة تقسيم الأرض الـمفتوحة، وأُبقيت بأيدي أهلها »مقابل دفع ضريبة الخراج« -سنن البيهقي، ج٩/ص: ٥٣١ -  ٦٣١-. وهكذا نجد أن اجتهاد عمر أدى الى تنظيم أمور البلاد الـمفتوحة، فالجزية على الأفراد البالغين وهي بمثابة بدل الخدمة العسكرية، والخراج على محصول الأرض الـمفتوحة عنوة، واقتصر معنى الغنيمة على الأموال الـمنقولة من نقود وذهب وفضة وسلاح ومتاع وأنعام. لـم يكن قرار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قراراً فردياً وإنما استشار كبار الصحابة فأقروا ما أشار به وبذلك نال قراره موافقة هي إجماع كبار الصحابة وهو إجماع ملزم لعامة الـمسلـمين. وقد أيده عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة ومعاذ بن جبل -كتاب الأموال، ابن سلام، ص:١٦- وعشرة من أشراف الأنصار »خمسة من الاوس وخمسة من الخزرج« -الخراج، أبو يوسف، ص:٥٢ -  ٦٢-. وبرر عمر ذلك الحكم بقوله: »أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه الـمدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر. لا بد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم. فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسّمت الأرضون والعلوج«. -كتاب الخراج، قدامة بن جعفر، ص:٥٢-. وعزز عمر هذا الرأي برأي آخــر حيث خاف من انشغال الـمجاهدين بالزراعة من دون الجهاد حيـــن قال لهم: »إنكم أن اتكلتم على الأرض تركتم الجهـاد«. -كتاب الأموال، ابن زنجويه ج١، ص: ١١٢-. وكانت معاملة الفلاحين في ظل الأمبراطوريتين الفارسية والرومانية كعبيد، فلـم يعاملهم عمر كذلك بل اعتبرهم أحرار أهل »ذمة تؤخذ منهم الجزية ومن أرضهــم الخــراج، فهم أحرار لا رق عليهم« -فتوح البلدان، ص: ٦٢٣-. وهذه ميزة حسنة ربطت الفلاحين بأرضهم، وجعلتهم ينظرون الى الدولة الإسلامية نظرة إيجابية. هكذا نجد أن الوقائع في عهد الخليفة الراشد الثاني تطلبت أحكاماً شرعية فاستشار الخليفة كبار الصحابة ورجح إجماعهم على إجماع الـمجاهدين لأن رأيهم يضمن مصالح عموم الـمسلـمين وأهل الذمة ولا يقتصر على تأمين مصلحة الـمجاهدين من دون غيرهم. وإقرار حكم الخراج في عهد عمر هو تطبيق عملي لعلـم أصول الفقه. واستمرت الأحكام الشرعية التي استنبطها الخليفة الثاني حتى جاء العهد الأموي فتم بعض التعديل وتوحيد نظام الضرائب في عموم الأقطار التابعة للخلافة الإسلامية الأموية. رجّح العلـماء اجتهاد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما رجحوا آراءه على آراء الآخرين، حتى قال الشعبي:  -  رحمه الله  -  »إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر. وقال عبدالله بن مسعود  -  رضي الله عنه  -  إني لأُحب عمر ذهب بتسعة أعشار العلـم. وقال أيضاً: لو أن عمر وُضِع في كفة الـميزان، ووُضِع علـم أهل الأرض في كفة لرجح علـم عمر. وقال حذيفة: كأن علـم الناس مع علـم عمر دُسَّ في حجر« -إعلام الـموقعين لابن قيم الجوزية ج١/ص:٣١-. إن أقوال العلـماء لـم تأت من فراغ وإنما كانت حصيلة معرفتهم صواب الخليفة الراشد الثاني حتى قال الإمام مُجاهد: »إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به. وقال عبدالله بن الـمسيب: ما أعلـم أحداً بعد رسول الله  -  صلى الله عليه وسلـم  -  أعلـم من عمر بن الخطاب -...- وقال محمد بن جرير الطبري: لـم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فُتياهُ ومذاهبَه  -  في الفقه  -  غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبَه وقولَهُ لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه. ويرجع -ابن مسعود- من قوله الى قوله -أي إلى قول عمر بن الخطاب-« -اعلام الـموقعين:ج١/٦١-. لـم يكن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مجرد خليفة بل كان مجتهداً ومؤسساً لـمدرسة في أصول الفقه اعتمد الرأي الراجح من أجل استنباط الأحكام الشرعية وتخرج من مدرسته أعلام العلوم الإسلامية وهم: عبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس ومن طريق هؤلاء الأربعة انتشرت العلوم الإسلامية بما فيها علـم أصول الفقه »فَعِلْمُ الناس عامتُهُ عن أصحاب هؤلاء الأربعة، أ -  فأما أهل الـمدينة فعلـمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. ب -  وأما أهل مكة الـمكرمة فعلـمهم عن أصحاب عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. ج -  وأما أهل العراق فعلـمهم عن أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما. قال ابن جرير الطبري: »وقد قيل: إن ابن عمر وجماعة مِنْ مَنْ عاش بَعْدَهُ بالـمدينة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- إنما كانوا يُفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مَنْ ما لـم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- قولاً« -إعلام الـموقعين لابن قيم الجوزية: ج١/٧١-. ظهر التخصص الدقيق في الـمدرسة العمرية إذ نجدُ إشارة صريحة الى ذلك في خُطبة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما خطب الناس في الجابية في بلاد الشام »فقال: مَنْ أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت. ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد الـمال فليأتني«. -إعلام الـموقعين ج١/٧١-. واشتهرت أم الـمؤمنين عائشة -رضي الله عنها- »في العلـم والفرائض والأحكام والحلال والحرام...«. ومن تلاميذ الـمدرسة العمرية »سعيد بن الـمُسيب راوية عمر وحامل علـمه -وهو أفقَهُ أهل الـمدينة- فقهاً وأعلـمهم بقضايا رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وقضايا أبي بكر، وقضايا عمر، وقضايا عثمان -رضي الله عنهم- -وكان ابن الـمسيب أعلـم أهل الـمدينة- بما مضى عليه الناس. وأما أغزرهم حديثاً فعروة بن الزبير. ولا تشاء أن تفجِّر من عبيد الله بن عتبة بن مسعود بحراً إلا فجّرته«. -إعلام الـموقعين لابن قيم الجوزية ١/٧١- وبعدما مات العبادلة: »عبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان الى الـموالي: فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رباح. وفقيه أهل اليمن طاووس. وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير. وفقيه أهل الكوفة ابراهيم النخعي. وفقيه أهل البصرة الحسن البصري. وفقيه أهل الشام مكحول. وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني. إلا الـمدينة فإن الله خصها بقرشي، فكان فقيه أهل الـمدينة سعيد بن الـمسيّب غير مدافع« -إعلام ج١/ص:٨١- وإلى جانب الفقهاء ظهر عدد وافر من الـمفتين التابعين في الـمدينة الـمنورة ومكة الـمكرمة والبصرة والكوفة والشام ومصر واليمن وبغداد. ومنهاج الـمدرسة العمرية في أصول الفقه واضح الـمعالـم يبيِّنه في كتابه الى شُريح: »إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقضِ به ولا تلتفت الى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولـم يَسِنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- فاقض بما أجمع عليه الناس. وإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- ولـم يتكلـم فيه أحد قبلك. فإن شئت أن تجتهد رأيكَ فتُقدِّم. وإن شئت أن تتأخر فتتأخر. وما أرى التأخير إلا خيراً لك«. -إعلام الـموقعين، ج١/ ص:١٥-. والروايات متواترة في تبيين منهج الـمدرسة العمرية هذا. ولذلك يمكننا القول: إن أسس أصول الفقه صارت واضحة الـمعالـم منذ أيام الخليفة الراشد الثاني.   ٭ زميل باحث في مركز الدراسات الإسلامية، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن، ساواس.
15800 -الحياة-...........عام -العنوان: أصول الفقه الإسلامي قبل التدوين : تطور قواعد الاصول

****

سلسلة تاريخ أصول الفقه الإسلامي

تاريخ أصول الفقه-1/7

تاريخ اصول الفقه-2/7

تاريخ أصول الفقه-3/7

تاريخ أصول الفقه-4/7

تاريخ أصول الفقه-5/7

تاريخ أصول الفقه-6/7

تاريخ أصول الفقه-7/7