العنوان: نظرات في الفتوى والافتاء والاستفتاء عند علماء أصول الفقه. الكاتب: محمود السيد الدغيم، ت.م: 28/07/1995 “ت.هـ: 01/03/1416؛ الحياة العدد: 11845 “الصفحة: 21
يتعرض الانسان المسلم لأمور كثيرة في الحياة، وحكم الشرع معروف بالنسبة اليه في بعض تلك الأمور، ومجهولٌ من قِبَلِهِ في بعضها الآخر.وتختلف مواقف المسلمين من شخصٍ الى آخر، فالمجتهد يجتهد لاستنباط الحكم الشرعي مِنَ الأدلة الشرعية، اما المُقلِّد فلا يمكنه استنباط الاحكام الشرعية لِعَد َمِ إحاطَتِهِ بالأدلة الشرعية، ولذلك يجب عليه ان يطلب الفتوى من المُفْتين، ولمعرفة القتوى الشرعية يجب ايضاح: معنى الفتوى والمُفتي والمُستفتي وما فيه الاستفتاء. ١ / الفتوى / في اللغة / تقول العرب: »أفتاهُ في الأمرِ: أَبَانَهُ له.وأفتى الرجلُ في المسألة، واستفتيتُه فيها، فأفتاني إفتاءً. وفُتىً وفَتْوى: إسمان يوضعان مَوْضِعَ الإفتاء.ويُقالُ: أفتيتُ فُلاناً رؤيا رآها، إذا عبّرتها له.وأفتيته في مسألته: إذا أجبته عنها “...” والاسم: الفتوى “...”. والْفُتيا: تبيين المشكل من الأحكام، أصله من الفتى، وهو الشاب الحَدَثُ الذي شبّ وقوِيَ، فكأنه يُقوّي ما أشكل ببيانِهِ فَيَشِبُّ ويصيرُ فَتياً قوياً، وأصلُهُ من الفتى وهو الحديث السنِّ. وأفتي المفتي: اذا أحدثَ حُكماً “...” والتفاتي: التخاصم “...”.والفُتيا، والفُتْوى، والفَتْوَى: ما أفتى به الفقيه “...”« لسان العرب ج: 10/ص: 183، »واشتقاقُ الفتوى: مِنَ الفتى لأنّه جوابُ في حادثةٍِ، أو إحداثُ حُكمً، أو تقويةٌ لبيانِ مُشكلٍ...« “المغرب ص: 351”.والفتوى / في اصطلاح الفقهاء / هي: »جوابُ المُفتي، وكذلك الفُتيا« أنيس الفقهاء ص: 309 وتتطلّب الفتوى السليمةُ توافرَ شروط الاجتهاد في المُفتي بالاضافة الى معرفةِ الواقعةِ المُستفتَى فيها، ومعرفةِ المُستَفْتي ومُحيطه الاجتماعي.وكيفية الفتوى. ٢ / أما المفتي فهو الذي يجيبُ المستفتي بالفتوى، ويُشْترط »أن يكون من أهل الاجتهاد، وإنما يكون كذلك بأن يكونَ عارفاً بالأدلة العقلية، كأدلة حدوث العالم، وأنَّ له صانعاً، وأنه واحدٌ مُتّصِفٌ بما يجبُ له من صفات الكمال والجلال، مُنزّهٌ عن صفاتِ النقصِ والخللِ، وانه أرسل محمداً / صلى الله عليه وسلم / وأيّده بالمعجزات الدالة على صدقِهِ في رسالته، وتبليغه للأحكام الشرعية، وأن يكون مع ذلك عارفاً بالأدلة السمعية وأنواعها، واختلافِ مراتبها في جهات دلالاتها، والناسخ والمنسوخ منها، والمتعارضات، وجهات الترجيح فيها، وكيفية استثمار الاحكام منها “...” وأن يكون عدلاً ثقةً حتى يُوثَقَ به في ما يُخبرُ عنه من الاحكام الشرعية، ويُستحبُّ له ان يكون قاصداً للإرشاد، وهداية العامّة الى معرفة الأحكام الشرعية، لا بجهة الرياء والسمعةِ، مُتصفاً بالسكينة والوقار، ليرغبَ المستمعُ في قبول ما يقولُ، كافّاً نفسه عن ما في أيدي الناس، حذِراً من التنفير عنه«.“الاحكام للآمدي ج ٤/ص: 192”.وتوافر هذه الشروط ضروريٌ لأن »المفتي قائمٌ في الأُمّة مَقامَ النبي / صلى الله عليه وسلم / والدليل على ذلك أمورٌ: أحدها / النقلُ الشرعي في الحديث: »إن العلماءَ وَرَثةُ الأنبياء، وأن الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا دِرهماً، وإنما ورثوا العلم« أخرجه أحمد في المسند ج 5/196. والثاني / انه نائبٌ في تبليغ الاحكام “...” وإذا كان كذلك فهو مَعنى كونه قائماً مقام النبي. والثالث / أن المفتي شارع من وجهٍ، لأنّ ما يُبلّغه من الشريعة إما منقولٌ عن صاحبها، وإمّا مُستنبطٌ من المنقول.فالأول يكون فيه مُبلّغاً.والثاني يكونُ فيه قائماً مقامهُ في انشاء الاحكام، وإنشاءُ الأحكام انما هو للشارع.فإذا كان للمجتهد انشاءُ الأحكام بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه شارعٌ، واجبٌ اتِّباعه والعملُ على وِفقَ ما قالَهُ.وهذه هي الخلافة على التحقيق.بلِ القِسمُ الذي هو فيه مُبلِّغٌ لا بد من نظرهِ فيه من جهة فهمِ المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الاحكام، وكلا الأمرين راجع اليه فيهما، فقد قام مقام الشارع أيضاً في هذا المعنى “...” وعلى الجملة: فالمُفتي مُخبرٌ عن الله كالنبي، ومُوقعٌ للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذٌ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، ولذلك سُمّوا أولي الأمر، وقُرِنَتْ طاعتهم بطاعة الله ورسوله.“الموافقات ج 4/ص: 244 / 246”.صفات المفتي: إنّ مَن يتصدر للإفتاء يحتاج الى توافر الصفات الحميدة التالية حتى يليق بالافتاء: يجبُ »ان يكون مكلّفاً مسلماً، ثِقةً مأموناً، مُتنزّهاً من أسباب الفِسقِ ومُسقطات المروءة.لأنّ من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإنْ كان مِن أهل الاجتهاد.ويكونُ فقيه النفسِ، سليمَ الذهنِ، رصين الفكر، صحيحَ التصرفِ والاستنباطِ مستيقظاً«.“أدب المفتي والمستفتي ص: 85 / 86”. وبعد توافر الصفات الحميدة اللائقة بالمفتي، يحتاج المفتي الى توافر شروط خاصة لكل نوع من المفتين المستقلين وغير المستقلين. شروط المفتي المطلق المستقل هي: ١ / توافر الصفات الحميدة اللائقة بالمفتي. ٢ / »معرفة أدلة الاحكام الشرعية من الكتاب، والسنّة، والاجماع، والقياس، والتحقق بها على التفصيل “...”«. ٣ / ان يكون »عالماً بما يُشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الاحكام منها.وذلك يُستفاد من علم أصول الفقه«. ٤ / ان يكون »عارفاً من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دُربةٍ وارتياضٍ في استعمال ذلك، عالماً بالفقه، ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغِ من تمهيدها.فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلقُ المستقلُّ الذي يتأدّى به فرضُ الكفاية.ولن يكون الا مجتهداً مستقلاً« “أدب المفتي ص: 86 / 87”، يدركُ الاحكام الشرعية.وهذا النوع من المفتين نادرٌ جداً »ومنذ دهرٍ طويلٍ طُويَ بساطُ المفتي المستقلِّ المطلقِ، والمجتهد المستقل.وأفضى أمر الفتوى الى الفقهاء المنتسبين الى أئمة المذاهب المتبوعة...« “أدب المفتي ص: 91”.ويقال: »انه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل«.“المجموع ج ١/ص: 78”. شروط المفتي غير المستقل، المنتسب الى أحدِ أئمة المذاهب الاسلامية السُّنّية الأربعة، وهي شروط مرتبطة بنوعية المفتي المنتسب وأحواله: ١ / اذا جمع أوصاف وشروط المفتي المستقل المطلق، وسلك في الاجتهاد والافتاء مسلك إمامٍ معين، فان فتوى المفتي المنتسب / في هذه الحالة / تُعدُّ »في حكم فتوى المجتهد المستقلّ المطلق، يُعملُ بها، ويُعتدُّ بها في الاجماع والخلاف، والله أعلم«. ٢ / اذا كان مجتهداً مقيّداً في مذهب إمامه لا يتجاوز أصول وقواعد إمامِهِ، فإنَّ العامل »بفُتياهُ مُقلِّد لإمامِهِ لا لَهُ، لأنّ معوّله على صحة اضافة ما يقوله الى إمامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته الى الشارع«.“ادب المفتي ص: 95” وفتوى المفتين بمذاهب غيرهم موضع خلاف بين الاصوليين »والمختار: انه اذا كان المجتهد / في المذهب / بحيث يكون مطّلعاً على مأخذ المجتهد المطلق الذي يُقلده، وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه واقواله، متمكّن من الفرق والجمع، والنظر والمناظرة في ذلك، كان له الفتوى.تمييزاً له عن العامي، ودليله انقطاع الاجماع من اهل كل عصر على قبول مثل هذا النوع من الفتوى، وان لم يكن كذلك فلا«.“الاحكام للآمدي ج: 4/ص: 204” 3 / اذا لم يبلغ رتبة المجتهد المقيد، ولكنه »فقيه النّفس«، حافظ لمذهب امامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، وبنصرته، يُصوّر ويُحرّر ويمهّد ويُقرّر ويُزيّف ويُرجّح، لكنه قصر عن درجة« “ادب المفتي ص: 98” المجتهدين المنتسبين والمقيدين في معرفة بعض العلوم التي تعتبر من ادوات الاجتهاد.فان فتوى مفتي هذه الدرجة لا تبلغ »في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى اصحاب الوجوه، ولا تقوى كقوتها« “ادب الفتوى ص: 99” وقد كثر المفتون الذين بلغوا هذه الدرجة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. 4 / اذا اكتفى »بحفظ المذهب ونقله، وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير ان عنده ضعفاً في تقرير ادلته وتحرير أقيسته.فهذا يُعتمد نقله وفتواه به في ما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات اصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم.وأما ما لا يجده منقولاً في مذهبه، فان وجد في المنقول ما هذا معناه بحيث يدرك من غير فضل فكرٍ وتأملٍ “…” جاز له الحاقه به والفتوى به.وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابطٍ منقولٍ مُمهدٍ في المذهب.وما لم يكن كذلك، فعليه الامساك عن الفُتيا فيه “ادب المفتي ص: 99/100”. ان من يتمعن في صفات المفتين غير المستقلين الاربعة يجد انهم »ليسوا على الحقيقة من المُفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين، وأدّوا عنهم فعُدّوا معهم، وسبيلهم في ذلك ان يقولوا مثلاً: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومُقتضى مذهبه كذا وكذا، وما اشبه ذلك، ومَن ترك منهم اضافة ذلك الى إمامه / انْ كان ذلك منه اكتفاءً بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال / فلا بأس«.“ادب المفتي ص: 103”اما مَنْ كان ادنى درجة من المفتين الذين ذكرناهم، فمنَ الاولى ان لا يتصدر للافتاء، واذا وقعت له واقعة، فعليه ان يستفتي منْ هو اعلم منه، وإن لم يجد في بلده من هو اعلم منه، فعليه طلب الأعلم في بلد آخر، فإن لم يمكنه ذلك، تحرّى قدر الاستطاعة طلباً للحكم الشرعي، ويلتمس ذلك في كتب المذاهب الموثوق بصحتها، فإن لم يجد في الكتب الموثوقة فتوى تناسب الواقعة امتنع عن الفُتيا للآخرين، وإن كان لا بدّ له من الافتاء فعليه مراعاة الادلة المتفق عليها، من كتاب وسنّة واجماع وقياس، والادلة المختلف فيها من استدلال واستحسان، ومصالح مرسلة، وعرف وعادات، وسد الذرائع المؤدية الى المحظور، وفتح الذرائع المؤدية الى المباح. »لا يُشترط في المفتي الحرية، والذكورة / كما في الراوي / وينبغي ان يكون كالراوي ايضاً في انه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجرّ النفع، ودفع الضرر، لأن المفتي في حُكم من يُخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص.فكان ذلك كالراوي، لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها الزام بخلاف القاضي “…” وإن المفتي اذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً مُعانذاً تُرَدُّ فتواه على مَنْ عاداه، كما تُرَدُّ شهادته.ولا بأس بأن يكون المفتي اعمى، او اخرس مفهوم الاشارة او كاتبا.ولا تصحّ فُتيا الفاسق، وان كان مُجتهداً مُستقلاً، غير انه لو وقعت له في نفسه واقعة عَمِلَ فيها باجتهاده نفسه ولم يستفت غيره.واما المستور “…” ففي وجه لا تجوز فُتياه كالشهادة.والاظهر انها تجوز، لأن العدالة الباطنة تَعْسُرُ معرفتها على غير الحكام، ففي اشتراطها حَرَجٌ على المستفتين.ومن كان من اهل الفُتيا قاضياً فهو فيها كغيره…« “ادب المفتي والمستفتي ص: 106/107” يتضح لنا ان للمفتي صفات وشروطاً واحكاماً، فَمَنْ توافرت فيه كلها، فهو المفتي المطلق المستقل، ومَنْ توافر فيه بعضها، فهو قائم مقام المفتي وهو على درجات متفاوتة بتفاوت ما توافر فيه من الصفات والشروط والاحكام، واعلى هذه الدرجات هي المفتي المنتسب، فالمفتي المُقيَّد، فالمفتي الفقيه النفس، ثم المفتي الحافظ الناقل لفتاوى مذهبه.وهكذا نجد ان هنالك المفتي، والقائم مقام المفتي، وانّ المتصدرين للافتاء في الزمن الحاضر لم تتوافر فيهم صفات وشروط واحكام المفتي المطلق المستقل، وتسمية الواحد منهم بالمفتي ليست الا من باب التجاوز، والأصح تسمية الواحد منهم باسم قائم مقام المفتي المنتسب، او المقيد نزولاً الى اضعف المفتين. 30311 “الحياة”...........عام “العنوان: نظرات في الفتوى والافتاء والاستفتاء عند علماء أصول الفقه