خريطة الطريق الفلسطينية وأم خرائط الطرق العراقية
كتب هذا المقال أثناء الغزو
د. محمود السيد الدغيم *
منذ فترة طويلة والحديث يلف ويدور حول خريطة الطريق الفلسطينية، التي لم تر النور لأن الذين وضعوها لم يقصدوا تنفيذها، بل قصدوا امتصاص النقمة التي تولدت عن القمع الصهيوني الدموي للشعب الفلسطيني الذي يطالب بحقوقه المشروعة.
خريطة الطريق الفلسطينية وأم خرائط الطرق العراقية
كتب هذا المقال أثناء ا
د. محمود السيد الدغيم *
منذ فترة طويلة والحديث يلف ويدور حول خريطة الطريق الفلسطينية، التي لم تر النور لأن الذين وضعوها لم يقصدوا تنفيذها، بل قصدوا امتصاص النقمة التي تولدت عن القمع الصهيوني الدموي للشعب الفلسطيني الذي يطالب بحقوقه المشروعة.
وقد وضعت الرئاسة الأميركية خريطة الطريق تحت تصرف شارون الذي تعتبره الرئاسة الأميركية مثالا يحتذى لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
وبما أن شارون عجز عن فرض نظامه على المنطقة فقد رأت الرئاسة الأميركية أن من واجبها مساعدته لتعميم النموذج الشاروني، ولذلك أتبعت خريطة الطريق الفلسطينية بخريطة الطريق العراقية، لأن خريطة الطريق الشارونية لا يمكن تنفيذها قبل رسم خرائط أهزل منها في المنطقة، وشاء سوء الطالع العراقي أن تكون خرائط الطرق العراقية هي الأولى في سلسلة الخرائط المنتظرة، والتي تلوح بوادر ظهورها في ظل التهديدات الأميركية للذين يعارضون الديمقراطية الشارونية.
تم رسم خرائط الطرق العراقية في المرسم الأميركي نفسه الذي رسمت فيه خريطة الطريق الفلسطينية، ولكن خطة تنفيذ الخرائط العراقية مختلفة عن خطة تنفيذ خريطة الطريق الفلسطينية، ففي فلسطين يقوم شارون بتطبيق الخريطة على أرض الواقع، ويساعده فريق من العملاء الفلسطينيين، أما في العراق فتتولى تطبيق الخريطة على الأرض قوات التحالف المنضوية تحت القيادة الأميركية.
وتتألف أم خرائط الطرق العراقية من عدة خرائط نذكر منها، خريطتي غربي الفرات وشرقه، وخريطة المناهج المدرسية، وخريطة المذاهب، وخريطة القوميات، وخريطة الأحزاب، وخريطة التعهدات، وغير ذلك من خرائط سرية تساهم في إخراج العراق من خريطة الصراع العربي الصهيوني.
أما خريطة غربي الفرات الصهيونية فتقطنها العشائر البدوية العراقية المسلمة السنية في الشمال والوسط، والعشائر الشيعية في الجنوب، وترمي هذه الخريطة إلى تجسيد فكرة "إسرائيل الكبرى"، اعتمادا على الدعوى الدينية اليهودية القائلة بمجيء السيد المسيح في نهاية الأزمنة من بني "إسرائيل" لكي يقيم "ملك الله الذي تدعى إليه" جميع قبائل الأرض بحسب ما ورد في "سفر التكوين: الإصحاح ،12 الفقرة 3"، وعلى ما جاء في التوراة: "في ذلك اليوم قطع الرب مع ابرام "إبراهيم" ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر النيل إلى النهر الكبير نهر الفرات"، "سفر التكوين الإصحاح ،15 فقرة 18" وجاء أيضا: "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيه كما كلمت موسى. من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" "سفر يشوع: إصحاح ،1 فقرة 3 و4". كما جاء أيضا "واجعل تخومك من بحر سوف "البحر الأحمر" إلى بحر فلسطين ومن البرية إلى النهر" "سفر الخروج: إصحاح ،23 فقرة 31".
وأول من دعا إلى خريطة "إسرائيل الكبرى" الصهيوني هرتسل الذي قال: "المساحة من نهر مصر إلى الفرات، لابد من فترة انتقالية لتثبيت مؤسساتنا إذ يكون الحاكم فيها يهوديا... وما أن تصل نسبة السكان من اليهود إلى الثلثين حتى تفرض الإرادة اليهودية نفسها سياسيا". ولكن حاييم وايزمان سلك أسلوب تطمين العرب في البداية فتحدث عن دولة يهودية صغيرة ذات حدود ثابتة بضمانة دولية ستكون أمرا نهائيا، ثم نقض فكرته التكتيكية، وأعلن رأيه قائلا: "لا يوجد أي مانع خلقي في اختراق الإطار، أي الحيز الإقليمي للكيان، ولكن بشرط ملء هذا الإطار أولا بالمهاجرين" وجاء بن غوريون فقال: "لو طرح علي السؤال: دولة يهودية في أرض إسرائيل الغربية كلها لقاء تخلينا عن حقنا التاريخي في أرض إسرائيل كلها لرفضت الدولة. فلا يحق لأي يهودي التخلي عن حق الشعب اليهودي في البلد. وليس من صلاحية أي يهودي ولا من صلاحية أية هيئة يهودية ولا من صلاحية الشعب اليهودي بأسره الذي يعيش معنا اليوم التخلي عن أي جزء من هذا البلد. فهذا هو حق الأمة اليهودية عبر أجيالها، وهو حق غير قابل للمصادرة في أي ظرف من الظروف... إن حقنا في البلد كله قائم إلى أبد الآبدين، وإلى حين إنجاز الإنقاذ التام والكامل، لن نتزحزح عن حقنا التاريخي".
إن تطبيق الخريطة يتطلب إزالة ما يعارضها من وثائق وآثار، وفي هذا الإطار دأبت "إسرائيل" على تدمير وسرقة الآثار التي تظهر خريطة المنطقة، ومن الأدلة على ذلك تدمير الآثار وسرقتها في فلسطين وغزة وسيناء والجولان، والسيطرة على تهريب الآثار من المنطقة بواسطة عصابات عربية وأجنبية خارجية وداخلية لتشويه هوية المنطقة، وفي هذا السياق جاء تدمير المتاحف العراقية ومكتبات التراث المخطوط والمطبوع.
وقد اقتضت أم الخرائط طي خريطة البعث العراقي، ورحيل ما بقي من قيادته القومية وقياداته القطرية إلى خارج العراق إذا تمكنوا من الإفلات من الناقمين العراقيين المنتصرين بالقوات الغازية، وفي مقابل طي خريطة البعث العراقي تفتح خريطة البعث السوري بقيادته القومية والقطرية التي قضت سنوات طويلة في صفوف المعارضة العراقية، واتخذت من دمشق مقرا لها، وها هنا نرى أن البعثيين العراقيين لن يجدوا أمامهم سوى الالتحاق بهذه الخريطة بوصفها طوق نجاة لهم مما تعده لهم الأحزاب الأخرى.
وعلى الخريطة السياسية العراقية ظهر الحزب الشيوعي مشاركا فعالا مطالبا بعراق ديمقراطي، بعدما غاب عن الساحة العراقية أكثر من عشرين سنة، وإلى جانبه ظهرت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، والمعارضة لها، والجميع يطالب بالديمقراطية ولكن الدلائل تشير إلى أن مستقبل السلام واستتباب الأمن والنظام في عراق ما بعد صدام غير مؤكد على ضوء الخلافات السياسية المتفاقمة بين جماعات المعارضة وأحزابها العشائرية والعقائدية والقومية والأممية والمذهبية والدينية.
فقد ظهرت على الخريطة الجديدة جماعات محلية في المدن والأرياف العراقية، وشرعت في بناء قواعد نفوذها بهدوء وطمأنينة على مرأى القوات، وراحت تطبق خرائطها على الأرض لحكم مناطقها، ما يذكرنا بشوارع بيروت وأزقتها وزواريبها المستقلة أثناء الحرب الأهلية، ولذلك فإن العراقيين يحملون شكوكا عميقة في الزعماء العائدين من المنفى لأنهم يسعون إلى الظفر بالمناصب العراقية العليا، ويصف العراقيون المقيمون في العراق هؤلاء المنفيين بالانتهازيين، ولا يثقون بهم لأنهم جاءوا من الخارج مع الأميركيين، ولا يعرفون ما يريد الشعب العراقي الذي تحمل ما جرى في أيام حكم صدام.
ولكن القوات المنتصرة في الحرب تعطي الأولوية لترسيخ أقدامها بقيام حكومة هزيلة تغطي تحت عباءتها خرائط تدمير العراق كافة، لكي يسهل تطبيق خريطة "إسرائيل الكبرى" التي وصلت النيل بموجب اتفاق "كامب ديفيد"، والمطلوب وصولها إلى الفرات بموجب أم الخرائط العراقية التي ولدتها أم القنابل، وهذا ما يثير حفيظة الوطنيين العراقيين الذين وجهوا نقدهم إلى خريطة الطريق العراقية التي أعدتها واشنطن بعد أن دعا طفلها المدلل أحمد الجلبي إلى إقصاء الأمم المتحدة من المشاركة في إعادة البناء السياسي في العراق، ولكن الانتقادات الوطنية العراقية لم تؤثر على سلوك الحاكم العسكري الأميركي جي غارنر.
واتضحت صورة الخريطة العراقية المرتقبة في المؤتمر الذي ترأسه الحكم العسكري في مدينة "أور" التاريخية العراقية ولذلك أكثر من مغزى إذ نجد في المعلومات التوراتية أن "أور" هي مسقط رأس إبراهيم وابن أخيه لوط عليهما السلام، ومنها هاجرا إلى "أورفه" ثم "أورشليم"، وهذه إشارة يدركها العارفون بالنوايا المعادية للمنطقة، والغريب أن مؤتمر "أور" للمعارضة العراقية خرج علينا يوم الثلثاء 15 أبريل/ نيسان بإعلان يقع في 13 بندا تشكل الأرضية لنظام فيدرالي عراقي ينبغي أن يكون ديمقراطيا، والمعروف أن الرقم 13 هو الرقم المشؤوم، وهو رمز السبط الثالث عشر الذي يأنس إليه الذين يعتنقون اليهودية من غير اليهود الأصليين الذين ينتسبون إلى الأسباط الاثني عشر الأصليين من أبناء يعقوب عليه السلام، فهل هذه الأشياء من قبيل المصادفة، أم هي داخلة في إطار المؤامرة التي ينكرها صانعوها وأتباعهم؟.
وبما أن المنتصرين هم الذين يرسمون الخرائط، فإن انتقادات الوطنيين العراقيين وضعت في ملف الضغوط المكثفة التي مارستها بريطانيا وفرنسا وروسيا، واتضح أن الأمم المتحدة لن تمنح دور كبير في رسم الخرائط العراقية، وسيقتصر دورها على جمع التبرعات الإقليمية والعالمية من أجل تنفيذ خريطة "إعادة التعمير بعد التدمير"، التي تتم برعاية الحاكم العسكري الأميركي جي غارنر، ومساعده الإنجليزي توم كروس، وهما المخولان بتطبيق خرائط إعادة البناء السياسي والعمراني في العراق.
وفي ظل الحاكم العسكري الأميركي ومعاونه الإنجليزي تتجلى خريطة أم الغنائم التي تسمى تمويها: خريطة إعادة الإعمار القائمة على "مليارات الدولارات" إذ منحت الحكومة الأميركية عقودا بمليارات الدولارات لإعادة الإعمار لبضع شركات أميركية منتقاة لها صلات على مستويات أعلى بالبيت الأبيض ووزارة الدفاع، وقد أغدقت سابقا أموالا وتبرعات على الحزب الجمهوري في الحملات الانتخابية التي أوصلت بوش وشركاه إلى تسلم الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، وهذه الخريطة الغنائمية تثير حفيظة الحالمين بالغنائم من الأوروبيين وغيرهم، إذ إن المعلومات تفيد بأن واشنطن هذه الأيام تعج برجال الأعمال، والرأسماليين الحاملين لأفكار تجارية ومنتجات يريدون ترويجها في العراق أولا، ودول الجوار ثانيا، فعبارة "صنع في العراق" مقبولة أكثر من عبارة "صنع في إسرائيل".
لاحت في أفق مستقبل العراق خرائط مرعبة تتقدمها خريطة الفرز القومي التي تقوم على الصراع التناحري بين المسلمين العرب والأكراد والتركمان، والمسيحيين الآشوريين والكلدانيين والسريان والأرمن، وتتوزع الجبهات فيبدأ الأكراد تحرشاتهم في شمال شرقي العراق، ويفصل التركمان بينهم وبين الموصل، وإلى الجنوب الغربي من التركمان تبدأ جبهة العرب من المسلمين السنة وتمتد هذه الجبهة إلى شرق بغداد، وربما تكون عاصمتها سامراء، وتلوح خريطة الصراع بين المسلمين السنة من العرب في الشمال والوسط مع شيعة الجنوب، ولاسيما الموالين لإيران.
وضمن هذه الخرائط تلوح بوادر خرائط أخرى مزعجة، فالأكراد يرزحون تحت سيطرة حزبي طالباني وبارزاني، وقد عين كل حزب منهما محافظا له في كركوك بعد نهبها، وخلف الحزبين تظهر تقسيمات أخرى بين المسلمين الأكراد المتدينين الذي طاردتهم القوات الأميركية المدعومة بمقاتلي الحزبين، ويضاف إلى ذلك الصراع الكردي المذهبي، إذ يوجد المسلمون السنة، كما يوجد الشيعة الأكراد الفيلية، والأكراد اليزيدية، والأكراد العلويون، وتتضارب اللهجات الكردية أيضا ما بين الصورانية وغيرها، وأما التركمان فسبعون في المئة منهم مسلمون سنة والباقي شيعة.
وأما العرب فمنم المسلمون السنة السلفيون والصوفيون، وهؤلاء من أتباع المذاهب الأربعة المعتمدة: الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة، ويضاف إلى ذلك التقسيم العشائري الذي يكون تناحريا في بعض الأحيان.
ومن العرب، العلويون في عانة وبعض المناطق الأخرى، والشيعة في الجنوب على ضفتي الفرات، وهؤلاء يتوزع ولاؤهم بين النجف في العراق، وقم في إيران، وتخترقهم التنظيمات الحزبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فأكثرية الشيوعيين العراقيين من الشيعة، وأكثرية البعثيين العراقيين أيضا، وقد بدت صورة الصراع الشيعي دموية في النجف بمقتل عبدالمجيد الخوئي ابن المرجع السابق أبوالقاسم الخوئي، وهذا دليل على عمق الخلاف بين الشيعة العرب والشيعة الفرس الراغبين في بسط الخريطة الإيرانية على أرض العراق.
إن أم الخرائط العراقية تتطلب من العراقيين موقفا وطنيا مسئولا يرتقي فوق المطامع المادية، والأنانية الفردية، ويقوم على مبدأ المحافظة على العراق أرضا وشعبا بكامل تراب العراق، وبشعوب العراق كافة بغض النظر عن التنوع القومي أو الديني أو المذهبي، وذلك لأن الغزاة الجدد سيمتصون خيرات الجميع، وسيرسخون أقدامهم اعتمادا على مبدأ "فرق تسد" وسيحاولون إثارة النعرات بكل أنواعها، ما يتطلب وعيا عراقيا بأخطار المرحلة المقبلة، وعلى الجميع أن يتذكر أن القنابل والصواريخ استهدفت الجميع، ولم تستثن أحدا لأسباب قومية أو دينية أو حزبية.
كما أن ما حل بالعراق يتطلب يقظة بقية الدول العربية، فبداية قضم الوطن العربي بدأت في فلسطين، وتلاها قضم تنوعت طرقه وتراوحت بين الاحتلال العسكري والاحتلال الدبلوماسي والاحتلال الاقتصادي والاحتلال الثقافي، وجاء احتلال العراق ليكشف أسوأ أنواع الاحتلال تحت مسمى "حرية العراق" وتتلوه حملة التهديدات الأميركية لسورية وإيران ظاهرا، ولبقية دول المنطقة باطنا، وهذا يتطلب موقفا إقليميا يقوم على التعاون لا على التآمر لقطع الطريق على الطامعين قبل فوات الأوان.
* باحث أكاديمي سوري مقيم في العاصمة البريطانية لندن