شعرستان : د. محمود السيد الدغيم. الإهداء: إلى كُلِّ العُشَّاق والعاشقات الذين عشِقوا بإخلاص، واستعذَبُوا أدَبَ العشق. إلى كُلِّ الذين أحبُّوا قولاً وعملاً بلا رياءٍ ولا غدرٍ.إلى كُلِّ مَن أعطى الحبَّ حُقوقَهُ الخيِّرَةِ الْمُرتبطةِ بالفضائلِ.إلى كُلِّ الذين فهِمُوا الحبَّ تضحيةً وفداءً ووفاءً. إلى كُلٍّ من عُروة بن حزام وحبيبته عفراء، ومَن أحبَّ مثلما أحبَّا.إلى كُلِّ القرَّاء من الرجال والنساء الذين أحبوا أو لم يَقَعُوا في شِراك الْحُبِّ. أُقدِّمُ "ديوان شِعرستان" راجياً لهم قراءةً مُمتِعةً، ودُرُوساً نافعة، وحُباًّ صادقاً دُون إحباطٍ، وحياةً صافيةً خاليةً من كلّ الْمُنَغِّصات.

 

 

 

 

كلمة شكر

 

 

أتوجَّه بالشكر إلى الصديق الشاعر اللبناني انطوان رعد نقيب المعلمين اللبنانيين سابقاً، وأشكره على صبره، وعلى قراءة مُسَوَّدة هذا الديوان، وعلى ما أبداه من ملاحظات قيِّمة كان لها أثرها الطيب.

 

كما أشكر الصديقات والأصدقاء الذين شجَّعوني على كتابة هذا الديوان، وعلَّقوا على الكثير من قصائدِه في المنتديات عبر شبكة الإنترنت العالمية (العنكبوتية)، وفي مُقدّمَتِهم "جُندية الحبِّ المجهولة": "عفراء" التي قرأت أكثرَ من خمسين قصيدةً من محتويات هذا الديوان، وذلك فيما مضى حينما عِشنا تجربة حبٍّ عابرةٍ طوتها الأيام، وآسَتْ آثارَ جِراحِها السنواتُ، وبقيت ذكرياتُها بِحُلوِها ومُرِّهَا كظلال غيوم تَتَنَاْهَبُها رياحُ العواطف، وتمحو أثارَها زوابعُ العادات والتقاليد البالية، ولا يبقى وراءَها سوى صرخات شعرية محكُومة بالإعدام في دُنيا العُشَّاق الْمُحاطَة بالعُذَّال.

 

 

 

بين ضِفَّتَيِّ الديوان

 

القارئات والقراء الكرام، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم على ضفاف ديوان شِعْرستان الذي تدفقت قصائده في نهر الحب، وكُتِبَت في بلاد الغُربة في مدينة لندن، بعيداً عن الوطن: سوريا الحبيبة التي أُسَمِيها : بلاد "حُبّ ستان" رغم أنني غادرتُها في 3/7/ 1983م، ولم أتمَكَّن من العودة إليها، كما لم أتمَكَّن من زيارة سوريا حينما فقدْتُ الوالدةَ ثُمَّ الوالدُ يرحمهما الله تعالى فقد انتظرا عودتي سنوات طويلة غارقة بالدموع والآهات، وبفَقْدِ الوالدين، وفراقِ سوريا أضَعْتُ بَوْصَلَةَ "بُوْصِلَة" العودة، وفارقتُ الأرض التي أحبَبْتُها، وأحببتُ ساكِنِيها من الأهل والأقارب والأصدقاء والأحباب.

 

وقصائدُ هذا الديوان هي ثمرةُ حُبٍّ عابر استمرَّ ما يقرُب من ثلاث سنوات، وبعدها غاب ذلك الْحُبُّ، وقبلَهُ غاب حبٌّ آخر، وتوالى غيابُ الحبِّ مع غياب الوطن، وبقيتْ هذه القصائدُ التي ترصد أحاسيسَ عاشقٍ عَشِقَ بكلِّ جوارحِه، وأَخْلَصَ كُلَّ الإخلاص، ولكنَّ العاداتِ والتقاليدَ، وتخاذل الحبيبة المسكينة قد أدى إلى اغتيال ذلك الْحُبِّ، وَوَأْدِهِ في مَهدِه قَبْلَ أنْ يُثْمِرَ بَنِيْناً وَبَنَاْتٍ كانت تحلمُ بهم "عفراء" شأنُها شأن الكثيرات من بنات حواء اللواتي اغتِيلَتْ أحلامُهن بكواتم أصوات العادات والتقاليد. ومع أن حُبَّنا لم يثمرْ بنيناً؛ فإنه أوحى إليَّ بقصائدَ غزليةٍ حاولتُ جاهداً أن أضمّنها ما عانيتُه، مع الالتزام بأصولِ القصائد الغزلية.

 

"فأمّا كَيفيَّةُ العمَل في القصَائِدِ الْمُشتمِلَةِ على نَسِيْبٍ ومَديحٍ فإنَّ كُلَّ قولٍ نَسِيْبِيّ لا يخلو مِن أنْ يكونَ مُتعلِّقاً بوصْفِ المحبوبِ ومُحاكاتِهِ، أوْ وَصْفِ بعضِ أحوالِهِ، وما لَهُ بذلكَ علْقَةٌ مِن زمانٍ أوْ مكانٍ أوْ غيرِ ذلك، أوْ يكونُ مُتعَلِّقاً بوصْفِ الْمُحِبِّ أوْ وَصْفِ بعضِ أحوالهِ ومَا لَهُ بذلك علقةٌ، أوْ يكونُ مُتعلِّقاً بوصْفِ حالٍ تقاسَمَاهَا مَعاً"[1].

 

وقد حاولت أن أصوغَ من قصائدي مرآةً تظهرُ فيها حالةُ حُبِّي وحُبِّ عفراء، وهي مُحاولةُ إحياءِ حُبٍّ سَلَف قبلَ عقودٍ من الزمن، وكان ميدانه ما بين جرجناز والمعرة ودمشق التي أنعشَ عطرُ ياسمينها أجواءَ ذلك الحبّ الراحل الذي طواهُ الزمانُ قَبْلَ سَنواتِ من لِقائِنا ـ أنا وعفراء ـ هذا اللقاء الْمُفاجِئ الذي بثَّ الحرارةَ في جليد العواطف المقموعة، وغذّى التَّيَّارَ في عُروقٍ ضَمَرْتْ، وداعَبَ المشاعِرَ التي اكتأبَتْ جرَّاء الفشلِ اللا إرَادِيّ، وأنتجَ اللقاءُ رغبةً مزدوجةً في إحياء الْحُبِّ الغابر الذي خَبَتْ جَذوته، وخَفَتَ صوتُه الحزين، ولكنَّهُ كَمَنَ ولم يَمُتْ، ومع اللقاء بُعِثَ الحبُّ ومزَّقَ أكفانَهُ، ووَمَضَ كالبرق في ليالي العزوبية المُظلمة، وتردَّد صَداه ـ في لندُنَ ـ كالرعد مقروناً بنبض قلبينا الْمُتعبين جَرَّاءَ ما مضى من حُبٍّ وحِرمان، تَعِبَ القلبان، ولكنَّهُما لم يَيْأَسَا من الحُبِّ، ولم يقنُطا من رحمة الله.

 

لقد حاولنا استنساخَ الْحُبّ القديم وتجديدَه، ولكنَّ الاستنساخَ فَشِلَ، ولم يحصل التَّجديد المرجو، ونجحَ الإجهاض في سَدِّ الذرائع التي عَجِزنا عن فتحِها، فَفُرضَ الحظرُ على حُبِّنا الوليد الجديد غيرِ الطبيعي، وحالَ الحظرُ دُوْنَ تحقيقِ ما كُنَّا نتمنّاه، فَذَوَى اخضرارُ أيامِ حُبِّ لندنَ كالزهور التي تنقطع عنها المياه، واستحالَ اخضرارُ الحبِّ شُحوباً يُشبِهُ لونَ الرِّمال التي تُعفِّرُ وجهَ الصَّحراء التي تُسَمَّى مَجازاً وتفاؤلاً: مفازة، وهي عن الفوز بعيدةٌ كَبُعدِ الثُّريا عن الثَّرى، ومن بين أنقاض حبٍّ مقتولٍ نبعَتْ قصائدُ الحبِّ، فكانتْ قصائدي بِحُبِّ عفراءَ اسماً على مُسمَّى حيثُ تَعَفَّرَ حُبُّنا بترابِ الفشل، ولسانُ حاله يقول: من التُّراب خُلِقنا وإليه نعود، وهكذا أضفنا حُباًّ فاشلاً إلى قوافل الحبِّ الفاشل الذي سارت عَبْرَ التاريخ على إيقاعِ الهَوادي والحَوادي، وأصواتِ الذين ترنَّمُوا بأشعار الشُّعراء العُذريين والإباحيين على حدٍّ سواء في سَفَرِهِم وحَضَرِهِم، فالحياةُ رحلةُ؛ وعُشاقُها راحِلون، وقد تعدَّدت أسبابُ رحيل الحبِّ والمحبين، والمصيرُ يتراوحُ بين اللقاء والفراق، وكلُّ مآلُهُ الفناء: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)" سورة الرحمن.

 

وصدَق اللهُ تعالى الذي يقولُ في كتابه العزيز: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ. وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)" سورة الحجّ.

 

لقد تخللت أيام حُبِّنا أحلامٌ عابرة داعبتْ مشاعرَنا، وأوديةٌ خياليةٌ كثيرةٌ خُضناها وهِمْنَا بها، ومغامراتٌ وهميَّةٌ، وحكاياتٌ دارت حَوْلَ اللقاءِ والفراق، والعَداء والصُّلح، والاتفاق والخلاف، وهذا الديوان مخصَّصٌ لِفَنِّ الغزلِ بِمَفهومِهِ العامِّ الشامل الذي سَمَّاهُ ابن سلام نسيباً وتشبيباً[2]، وأمّا ابنُ قُتيبة فاعتَبَرَ شِعرَ عُمر بن أبي ربيعة تشبيباً[3]، ولكنّ قدامة بن جعفر فرّق بين النَّسِيْبِ والغزل؛ فقال: "إنَّ الغزَلَ هو المعنى الذي إذا اعتقدَهُ الإنسانُ في الصَّبوَةِ إلى النساء نسب بهن مِن أجلِهِ، والغزَلَ إنَّما هو التَّصابي؛ والاستهتارُ بِمَودَاتِ النساء (أما النَّسيبُ فهو) ذِكرُ خَلْقِ النِّساءِ، وأخلاقِهِنَّ، وتصَرُّفِ أحوالِ الهوى بِهِ مَعَهُنَّ، فكأنَّ النَّسيبَ ذِكْرُ الغزل، والغزَلَ المعنيّ نفْسَهُ"[4]، وجعل ابن رشيق القيرواني التغزُّلَ بمعنى النَّسيبِ والتَّشبيبِ[5] جرياً على آثار قُدامة بن جعفر، ومع أنَّ الفنونَ الثلاثة مُتقاربةٌ، فإنّ ما بينها فوارقَ طفيفة، فالغزَلُ: هو الحديثُ إلى النساء. والنَّسيبُ: أن ينسبَ الشاعرُ إلى نفْسِهِ هَوىً وحُبًّا وَوَلَهاً ووَجْداً ودَنفاً، ويُشهرُ ما يُنسَبُ إلى المرأة من آثارٍ وديارٍ. والتَّشبِيْبُ: هو وَصْفُ محاسِنِ المرأةِ ومَفاتِنِها بشكلٍ سَافرٍ. ولذلك نَجِدُ هذه الفنونَ مُجتمِعةً تتجاوَرُ في القصيدةِ الواحِدةِ لِتَجَاوُرِ مَعانِيها.

 

وديوان شعرستان قد تضمّن الفنون الثلاثة، وبالإضافة إلى ذلك لا يخلو من نفَحاتِ فنونٍ شِعرية أُخرى كالتمرُّد والشكوى والحنين والوصف والتأمُّل والرثاء والهجاء، والكثيرِ من المشاعر الإنسانية التي تجسَّدت في هذا الديوان إلى جانب هَفَواتٍ يقَعُ فيها الإنسانُ الخطَّاءُ، وخَيْرُ الخطَّائين التَّوابين.

 

ولقد شملت قوافي هذا الديوان جميعَ حُروفِ الهجاء العربية، ولم أترك حرفاً يعتبُ عليَّ رغم أنّ الكثير من دواوين فحول الشعراء قد خلَتْ من رويِّ حروف الثاء والذال والزين، والضاد ـ وهو الحرف الذي تسمَّى به لُغَتُنا لُغة الضاد ـ والطاء والظاء والغين، وبالإضافة إلى القوافي، فقد شملت القصائدُ مُعْظَمَ بُحور الشعر العربي، ولكنَّ أكثرها من البحر الكامل والبسيط والوافر والطويل[6] والخفيف، وهي بحورٌ غنائيةٌ تناسبُ الحبَّ والحِرمان.

 

وحَرِصتُ في قصائدي على التَّقَيُّدِ ببُحورِ الشِّعر فالتزمتُ الأوزانَ المرغوبة، وأعرَضتُ عن البحورِ الأُخرى، وطبَّقتُ ما أشار به نوابغُ النُّقّاد القدماء كحازم القرطاجني الذي قال: "ومَن تَتَبَّعَ كلامَ الشُّعراءِ في جميع الأعارِيْضِ وَجَدَ الكلامَ الواقِعَ فيها تَخْتَلِفُ أنْمَاطُهُ بِحسبِ اختلافِ مَجاريها مِن الأوزانِ. ووَجَدَ الافتنانَ في بعضِها أعَمَّ مِن بعْضٍ، فأعلاها درجَةً في ذلكَ الطويلُ والبسيطُ[7]، ويتلوهُمَا الوافِرُ[8] والكامِلُ[9]، ومَجَالُ الشاعِرِ في الكامِلِ أفسَحُ مِنهُ في غيرهِ، ويتلو الكامِلَ والوافِرَ عندَ بعضِ الناسِ الخفيفُ[10]، فأمَّا المدِيْد والرَّمَل[11] ففِيهما لِيْنٌ وضَعفٌ، وقلَّمَا وَقَعَ فيهما كلامٌ قويٌّ إلاّ لِلعرَبِ؛ وكلامُهُمْ معَ ذلك في غيرهِما أقوى(..) فأمَّا الْمُنْسَرِحُ ففي اطِّرَاد الكلامِ عليهِ بعضُ اضطرابٍ وتقَلْقُلٍ، وإنْ كان الكلامُ فيه جَزْلاً، فأمَّا السَّريعُ والرَّجزُ ففِيهِما كزَازةٌ، فأمَّا الْمُتَقارِبُ[12] فالكلامُ فيه حَسَنُ الاطِّرَادِ إلاّ أنَّهُ مِن الأعاريْضِ السَّاذِجَةِ الْمُتَكرِّرَةِ الأجزاءِ، وإنَّمَا تُسْتَحلى الأعاريضُ بوُقُوْعِ التركِيْبِ الْمُلائِمِ فيها، فأمَّا الْهَزجُ ففِيهِ معَ سَذاجَتِهِ حِدَّةٌ زائِدةٌ، فأمَّا الْمُجتثُّ والْمُقتضبُ فالْحَلاوَةُ فِيهما قليلةٌ على طَيْشٍ فيهما، فأمَّا الْمُضارعُ ففيه كُلُّ قبِيْحَةٍ، ولا يَنْبَغِيْ أنْ يُعَدَّ مِن أوزانِ العرَبِ، وإنَّمَا وُضِعَ قِياساً، وهو قياسٌ فاسِدٌ لأنَّهُ مِن الوَضْعِ الْمُتنافِرِ(..) فالعروضُ الطويلُ تَجِدُ فيهِ أبداً بَهاءً وقوَّةً، وتَجدُ لِلبسيطِ سَباطةً وطَلاوَةً، وتَجدُ لِلكامِلِ جَزالةً وحُسْنَ اطِّرادٍ، ولِلخفيفِ جَزالةً ورشاقةً، ولِلمُتقارِبِ سَباطةً وسُهولةً، ولِلمَديدِ رِقَّةً ولِيْناً مَعَ رشاقةٍ، ولِلرَّمَلِ لِيناً وسُهُولةً، ولِمَا في المديدِ والرَّمَلِ مِن اللِّيْنِ كَانَاْ أَلْيَقَ بالرِّثاءِ، وما جَرَىْ مَجْرَاْهُ مِنْهُمَا بغَيْرِ ذلكَ مِن أغراضِ الشِّعْرِ.."[13].

 

ونظراً لما للعروض من أهمية فقد تقيدة بالأوزان الأصيلة التي فصلت ما بين النثر والشعر حسْبَ قول حازم القرطاجني: "الشِّعرُ كلامٌ مَوْزُوٌن مُقفَّىْ مِن شأنِهِ أنْ يُحَبِّبَ إلى النَّفْسِ ما قُصِدَ تَحْبِيْبُهُ إِليها، ويُكَرِّهُ إليها ما قُصِدَ تكريْهُهُ؛ لِتُحْمَلَ بذلكَ على طَلَبِهِ أو الْهَرَب مِنْهُ؛ بِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ حُسْنِ تَخْيِيْلٍ له، ومُحاكاةٍ مُستقلَّةٍ بنفسِها أوْ مُتصوَّرَةٍ بِحُسنِ هيأةِ تأليفِ الكلامِ، أو قوَّةِ صِدْقِهِ، أو قوَّة شُهرتهِ، أوْ بِمجموعِ ذلكَ، وكلُّ ذلكَ يتأكَّدُ بِما يقتَرِنُ بهِ مِن إِغرَابٍ، فإنَّ الاستغرابَ؛ والتَّعَجُّبَ حركةٌ لِلنَّفْسِ إذا اقترنتْ بِحرَكَتِها الْخَيَاْلِيَّةِ قُوى انفِعَالِهَا وتأثُّرِها.

 

فَأفْضَلُ الشِّعْرِ ما حَسُنَتْ مُحاكاتُهُ وهَيأتهُ، وقوِيَتْ شُهْرَتُهُ أو صِدْقُهُ، أو خَفِيَ كَذِبُهُ، وقامتْ غرَابَتُهُ، وإنْ كانَ قد يُعَدُّ حذقاً للشَّاعِرِ اقتدارُهُ على ترويجِ الكَذِبِ، وتَمْويهُهُ على النفس، وإعْجَاْلُها إلى التَّأثُّرِ لَهُ قَبْل، بإعمَالِهَا الرَّويَّة في مَا هُوَ عَليهِ، فهَذا يرجعُ إلى الشَّاعر؛ وشدَّةِ تَحَيُّلِهِ فِي إيقاعِ الدُّلسَةِ لِلنَّفْسِ في الكلام، فأمَّا أنْ يكون ذلكَ شيئاً يرجعُ إلى ذاتِ الكلامِ فَلاْ.

 

وَأرْدَأُ الشِّعْرِ ما كان قَبيحَ الْمُحاكاةِ والْهَيئةِ، واضحَ الكَذِبِ، خليًّا من الْغَرَابَةِ، ومَا أجْدَر ما كان بِهذهِ الصِّفَةِ ألاّ يُسَمَّى شِعْراً، وإنْ كانَ مَوزُوناً مُقَفىً، إذ الْمَقصُودُ بالشِّعرِ مَعْدُوْمٌ مِنْهُ؛ لأنَّ ما كانَ بهذهِ الصِّفَةِ مِن الكلامِ الوارِدِ في الشِّعْرِ لا تتأَثَّرُ النَّفْسُ لِمُقتَضَاهُ، لأنَّ قُبْحَ الْهَيئةِ يَحُوْلُ بينَ الكلامِ وتَمَكُّنِهِ مِن القَلْبِ، وقُبْحُ الْمُحاكاةِ يُغَطِيْ على كَثيرٍ مِن حُسْنِ الْمُحَاكَى، أوْ قُبْحِهِ، ويشغلُ عن تَخيُّلِ ذلك؛ فتَجْمَدُ النفسُ عن التَّأَثُّرِ لَهُ، وَوُضُوْحُ الكَذِبِ يَزَعُهَاْ عَن التَّأَثُرِ بالْجُمْلَةِ"[14].

 

ولقد وضعتُ لهذا الديوان عدَّة عناوين أثناء كتابته، ففي البداية قرَّرتُ أن أسَمِّيَهُ: "خَمْسُوْنَ قَصِيْدَةً لَنْدُنِيَّة لِعَيْنَيّ عَـفْرَاْءَ"، ولكن القصائدَ تجاوزت العددَ، وضمَّنتُ الديوانَ أسماء أُخرى للتَّمويهِ، فقرَّرتُ تغْييرَ اسم الديوان لكي لا يتناقضُ مَعناهُ مع فَحْواهُ، فمنحْتُهُ اسم: "شِعْرستَاْن: قَصَاْئِدُ الْغَرَاْم من لندن"، وصار اسم عفراء رمزاً من رموز الحبِّ الفاشل، ولا أدري إنْ كنتُ قد وُفِّقْتُ في ذلك أَمْ أخفقتُ. وما من كاتبٍ إلاّ ويقول: لو كتبتُ كذا مكان كذا لكان أبلغ وأنسب، وما من ناقدٍ إلاّ ويجدُ ما ينقده، ولا نصوص فوق النقد سوى النصوص المقدسة التي أوحى اللهُ تعالى بها إلى أنبيائه ورسله الكرام المكرمين.

 

و

ومضة نقدية

 

لايكون الشاعرُ شاعراً إلاّ إذا وهبه الله تعالى رُكنَيَّ الشِّعر الأساسيين، وهُمَا: مَلَكَةُ الموهِبَةِ الفِطرية التي تُوْلَدُ معه في المهد، وغِذاءُ الموهِبَةِ الذي يَمُدُّها بالحياة، وهوَ الإصرارُ الإراديُّ على تنمِيَتِها بالتَّحصيلِ الْمُستمِرِّ، والبحثُ الدَّائمُ حتى الإيابِ إلى الَّلحدِ، ويَحتاجُ الشاعرُ إلى بيئةٍ أدبيّةٍ صِحيَّةٍ يَتروَّض فيها، وإِضافةً إلى ذلك يَجبُ أنْ يَتَحلَّى الشَّاعِرُ بصِفاتٍ تكمِيلِيَّةٍ.

 

أَوَّلُها: الرّغبةُ بالإنتاج.

 

وثانيها: التفاعُلُ مع الْمُجتمَعِ لِلتَّعبيرِ عن آمَالِهِ وآلامِهِ الكُلِّيَّةِ؛ بالإضافةِ إلى اهتِمامِ الشاعِرِ بقضاياهُ الذاتيّةِ الجزئيّةِ، وذلك في سبيلِ تَحويلِ الأصواتِ إلى كَلِماتٍ لَهَا مَدلُولُها الذي يُحرِّكُ الْمَشاعِرَ، ويُؤثِّرُ بالْمُتلقِي تأثِيرًا فَعَّالاً جَرَّاءَ تفاعُلِهِ مع تجرُبةِ الشَّاعِرِ الْحَيَويَّةِ النابعةِ مِنْ ثقافتِهِ وإحسَاسِهِ وشُعُوْرِهِ وإدراكِهِ. وقد انتبه القدماء إلى ذلك فقال حازم القرطاجني (ت: 684 هـ/ 1285م): "النظْمُ صناعةٌ آلتُها الطبْعُ، والطبعُ هو استكمالٌ للنفْسِ في فَهْمِ أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأنِ الكلام الشعري أنْ يَنْحَى بهِ نَحوها، فإذا أحاطت بذلك عِلماً قويَتْ على صوْغ الكلام بحسْبهِ عملاً، وكان النفُوذُ في مقاصِدِ النظمِ وأغراضهِ؛ وحُسْنُ التَّصَرُّفِ في مذاهبهِ وأنحائهِ إنَّمَا يكونان بقُوَىً فِكريةٍ؛ واهتداءاتٍ خاطرِيَّةٍ تتفاوَتُ فيها أفكارُ الشعراء.."[15]. وقد قسم حازم القرطاجني الشعراءَ إلى "ثلاث مراتب، فأهلُ المرتبة العُليا هُم الشعراءُ في الحقيقة، وأهلُ المرتبة السُّفلى غيرُ الشعراءِ في الحقيقة، وأهلُ المرتبة الوُسْطى شعراءٌ بالنسبة إلى مَنْ دُونَهم غيرُ شُعراء بالنسبةِ إلى مَنْ فوقَهُم.."[16].

 

 وبِمَا أنَّ الشِّعْرَ مِرآةٌ تَعْكِسُ أحاسِيْسَ الشَّاعِرِ، فقد حَرِصْتُ على لَجْمِ شَيطانِ شِعري قدْرَ الإِمكانِ خَشيَةَ أنْ يُوْرِدَنِيْ مَوارِدَ الْهَلاكِ التي أتَحَاشَاهَا قدْرَ الطاقةِ البشرِيَّةِ، وأنا أعْلَمُ أنَّ ذلكَ يُؤثِّرُ على الصِّناعةِ الشِّعريةِ، ويَكْبَحُ جِمَاح السَّليقةِ، ولكِنَّنِيْ أُحاوِلُ التَّقَيُّدَ بقيود عِلْمِ البيان الضَّابطِ للنثر والشِّعر، والذي هو "بِمَنزِلَةِ أُصُول الفِقه للأحكام الشرعيَّةِ وأدِلَّتِها"[17]. و مِن المعلوم أنَّ موضوعَ عِلْمِ البيانِ هو الفصاحَةُ والبلاغَةُ، "وصاحِبُهُ يُسألُ عن أحوالِهِمَا اللفظيَّةِ والْمَعنويَّةِ. وهوَ وَالنَّحْوِيُّ يَشتركانِ في أنَّ النَّحويَّ يَنظُرُ في دلالةِ الألفاظِ على المعاني من جِهةِ الوّضْعِ اللُّغويِّ، وتِلكَ دلالةٌ عامَّةٌ.

 

وصاحِبُ عِلْمِ البيانِ ينظُرُ في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالةٌ خاصَّةٌ. والْمُرادُ بِها أنْ يكون على هيئةٍ مخصوصَةٍ مِن الْحُسْنِ، وذلك أمرٌ وراءَ النَّحْوِ والإعراب. ألا ترَى أنَّ النَّحويَّ يَفْهَمُ معنى الكلامِ الْمَنْظوم والْمَنْثُورِ، ويَعْلَمُ مَوقِعَ إِعْرابِهِ، ومَعَ ذلكَ فإنَّهُ لا يَفْهَمُ ما فيهِ منَ الفصاحَةِ والبلاغةِ، ومِنْ هَا هُنا غَلِطَ مُفَسِرُو الأشعارِ في اقتصارِهم على شَرْحِ المعنَىْ، وما فِيها مِن الكلماتِ اللغويّة، وتَبْيِيْنِ مَواضِعِ الإعرابِ مِنْها؛ دُونَ شرحِ ما تضمَّنَتْهُ مِن أسْرارِ الفصاحةِ والبلاغة.

 

وكثيراً ما رَأَيْنَاْ وسَمِعْنا مِن غرائبِ الطِّباعِ في تَعَلُّمِ العلوم، حتى أنَّ بعضَ الناسِ يكونُ له نفاذٌ في تَعَلُّمِ عِلْمٍ مُشْكِلِ الْمَسْلَكِ؛ صَعب المأخَذِ، فإذا كُلِّفَ تَعَلُّمَ ما هو دُوْنَه من سَهْلِ العُلوم نكَصَ على عَقبَيْهِ، ولم يكُنْ لَهُ فيه نَفاذٌ، وأغرب مِن ذلك أنَّ صاحِبَ الطبعِ في المنظومِ يُجيدُ في الْمَدِيْحِ دُوْن الْهِجاء، أو في الهجاءِ دُون المديح، أو يُجيدُ في الْمَراثِيْ دُون التَّهَانِي، أو في التَّهاني دُون الْمَراثِي، وكذلك صَاحِبُ الطَّبْعِ في الْمَنْثُوْرِ"[18].

 

 وأنا أُقِرُّ وأعترفُ كما اعترف قبْلِي ابنُ الأثير حيثُ قال: "لا أدَّعي فيما أَلَّفْتُهُ مِن ذلك فَضيلةَ الإحسانِ، ولا السلامَةَ مِن سَبْقِ اللسانِ، فإنَّ الفاضلَ مَن تُعَدُّ سَقَطاتُهُ، وتُحْصَى غَلَطاتُهُ، ويُسيءُ بالإحسان ظَنًّا، لا كَمَنْ هُو بِاِبْنِهِ وبِشِعرِهِ مَفتُونٌ"[19]. "ومن المعلوم أنَّ خواطِرَ الناس؛ وإن كانت مُتفاوتةً في الْجَودةِ والرَّدَاءَةِ، فإنَّ بعضَها لا يكونُ عالياً على بَعْضٍ، أو مُنْحَطاًّ عنه إلاّ بشيءٍ يَسِيْرٍ، وكثيرًا ما تتساوى القرائحُ والأفكارُ في الإتيانِ بالمعاني؛ حتى أنَّ بعْضَ الناسِ قد يأتِي بِمَعنىً موضوعٍ بِلَفْظٍ، ثُمَّ يأتِي الآخرُ بعدَهُ بذلك المعنى واللفظ بعَيْنِهِمَا مِن غيرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَا جاءَ بهِ الأوَّلُ، وهذا الذي يُسَمِيه أربابُ الصناعةِ (وُقُوْعُ الْحَاْفِرِ عَلى الْحَاْفِرِ)[20]، وَمَعانِي الشِّعْرِ "ترجِعُ إلى وَصْفِ أحوالِ الأُمُورِ الْمُحَرِّكَةِ إلى الْقَوْلِ، أوْ إلى وَصْفِ أحْوالِ الْمُحَرِكين لَهَا، أوْ إلى وَصْفِ أحْوالِ الْمُحَرِّكاتِ والْمُحركين مَعاً، وأحْسَن القولِ وأكمَله ما اجتَمَعَ فيه وَصْفُ الْحَالَيْنِ.."[21]

 

وحاولت الاستغناء عن الرُّخصِ التي أفتى بجوازها الروادُ من النقاد، وفي مقدمتهم الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهِيدي حيثُ قالَ: "الشُّعراءُ أُمراءُ الكلامِ يُصَرِفُوْنَهُ أنّى شاؤُوْا، ويَجُوْزُ لَهُمْ ما لايَجُوْزُ لغيرهِمْ مِن إطلاقِ الْمَعْنَى وتَقْيِيْدِهِ، ومِن تَصريفِ اللَّفظِ وتَعْقِيْدِهِ، ومَدِّ الْمَقصُورِ، وقَصْرِ الْمَمْدُوْدِ، والْجَمْعِ بين لُغَاْتِهِ، والتَّفريقِ بينَ صِفاتِهِ، واستخراجِ مَا كَلَّت الألسُنُ عن وصْفِهِ ونعْتِهِ، والأذهانُ عن فَهْمِهِ وإيضاحِهِ، فيُقرِّبُوْنَ الْبَعِيْدَ، ويُبَعِّدُوْنَ القريبَ، ويُحْتَجُّ بِهِمْ ولا يُحْتَجُّ عليهم، ويُصوِّرُوْنَ الباطلَ في صُورةِ الْحَقِّ، والْحَقَّ في صُوْرَةِ البَاطِلِ.

 

(وأيَّدَ حازم القرطاجني الخليلَ فقال:) فَلأجْلِ ما أشارَ إليهِ الخليلُ رحِمَه اللهُ تعالى، مِن بُعْدِ غاياتِ الشُّعراءِ، وامتدادِ آمادِهِمْ في مَعرِفَةِ الكلامِ، واتِّسَاْعِ مَجَالِهِمْ في جميعِ ذلكَ؛ يُحْتَاجُ أنْ يُحْتَاْلَ في تَخريجِ كَلامِهِمْ على وُجُوْهِ الصِّحَّةِ، فَإنَّهُم قَلَّ مَا يَخفى عَلَيْهِم ما يَظهَرُ لِغيرِهِمْ؛ فلَيْسُوا يقولُونَ شَيئاً إلاّ وَلَهُ وَجْهٌ، فلِذلِكَ يَجِبُ تَأوُّلُ كلامِهم على الصِّحَّةِ، والتَّوقُّفُ عن تَخْطِئَتِهِمْ فيما ليسَ يَلُوْحُ لهُ وَجْهٌ. وليسَ ينبَغِيْ أنْ يَعْتَرِضَ عليهم في أقاوِيْلِهِمْ إلاّ مَنْ تُزاحِمُ رُتبتُهُ في حُسْنِ تأليفِ الكلامِ، وإبداعِ النظام رُتْبَتَهُمْ، فإنَّما يكونُ مِقدارُ فضْلِ التأليفِ على قدْرِ فضْلِ الطَّبْعِ والْمَعرِفَةِ بالكلامِ، وليسَ كُلُّ مَنْ يَدَّعِيْ الْمَعرِفةَ بالِّلسانِ عارِفاً بهِ في الْحَقِيْقَةِ، فإنَّ العَارفَ بالأغراضِ اللاحِقةِ لِلكلامِ التي لَيْسَت مَقصُودةً فيه مِن حيثُ يُحتاجُ إلى تَحسينِ مَسمُوعِهِ أوْ مَفهُومِهِ ليس لهُ مَعرفةٌ بالكلامِ على الْحَقِيقةِ أَلْبَتَّةَ، وإنَّمَا يَعرفهُ العُلماءُ بِكُلُّ ما هُوَ مقصُوْدٌ فيه مِن جِهَةِ لَفْظٍ أوْ مَعنى، وهؤلاء هُمُ الْبُلَغاءُ الذين لا معرّج لأربابِ البصَائِرِ في إِدْراكِ حَقائقِ الكلامِ إلاّ عَلى ما أصَّلُوْهُ، فمَنْ جعَلَ ذلك دَلِيْلَهُ هُدِيَ سَبيلَهُ، ومَن اعتمَدَهُ أَحْمدَه"[22].

 

وأرجو من قرَّاء هذا الديوان السماح على مابدر من أخطاء لأنَّ ارتقاء سُلم الشعر صعبٌ، ولا سيما لغير المتفرغين له من أمثالي حيث أنني أخصِّصُ مُعظم الوقت لكتابة البحوث والمقالات، مع اعترافي بأنَّ الشِّعرَ قد حاز على اهتمام الناس، واحتلَّ مكانةً رفيعةً بين أساليب الكلام، ووُضِعت له تعريفاتٌ شتَّى، ومنها: قولُ ابن قتيبة (213 – 276 هـ): "يُقال: خَيرُ الشِّعر ما روََّاكَ نفسَهُ. ويُقال: خيرُ الشِّعرِ الْحَولِيّ الْمُنقَّح الْمُحكَّك"[23]، "وقلتُ في وصفِ الشِّعرِ: الشِّعرُ مَعدنُ عِلمِ العرَبِ، وسِفرُ حِكمَتِها، ودِيوانُ أخبارِها، ومُستودعُ أيامِها، والسُّوْرُ الْمَضروبُ على مَآثِرِها، والْخندَقُ الْمَحْجُوزُ على مَفاخِرِها، والشاهِدُ العَدْلُ يومَ النِّفارِ، والْحُجَّةُ القاطِعةُ عِندَ الْخِصَامِ، ومَنْ لَمْ يَقُمْ عِندَهم على شَرَفِهِ؛ وما يَدَّعِيهِ لِسَلفِهِ مِن الْمَناقِبِ الكريمةِ؛ والفِعالِ الحميدةِ بيتٌ مِنهُ شَذَّتْ مَساعِيه، وإنْ كانت مشهورَةً، ودَرَسَتْ على مُرُورِ الأيامِ، وإنْ كانت جِساماً؛ ومَنْ قَيَّدَهَا بقوافِي الشِّعْرِ؛ وأوْثَقَها بِأوزَانِهِ؛ وأشهَرَها بالبيتِ النَّادِرِ؛ والْمَثَلِ السَّائِرِ، والْمَعْنَى اللَّطِيفِ؛ أخْلَدَهَا على الدَّهْرِ، وأخْلَصَهَا مِن الْجَحْدِ، ورَفعَ عنها كَيْدَ العَدُوِّ؛ وغَضَّ عَيْنَ الْحَسُوْدِ.."[24]

 

ورغم مكانة الشعر المرموقة فإن ظروف الحياة ومتطلباتها قد جعلت مني ناثراً أكثر مني شاعراً، والدليل على ما أقول هو كُتبي المنشورة في مجالات السياسة والجدل والتاريخ والفهرسة منذ ربع قرن، وخلال تلك الفترة لم أنشر من الشعر أيّ ديوان، ومازالت مئاتُ القصائد مُسوَّداتٍ تنتظرُ التبييضَ، وقد ضاعت مئات القصائد التي كتبتها في سنوات المراهقة والشباب.

 

 

شِعْرستان

إِنَّ الْمَحَبَّةَ فِي الْفُؤَاْدِ سِنَاْنُ
وَمَكِيْدَةٌ سَقَطَتْ بِهَا التِّيْجَاْنُ

 

 

 

 

 

 

 

وَمَرَاْبِعُ الْحُبِّ الْعَفِيْفِ لَطِيْفَةٌ
كَمَسَاْرِحٍ عُزِفَتْ بِهَا الأَلْحَاْنُ

 

 

وَالْحُبُّ لِلْقَلْبِ الْمُعَذَّبِ مِحْنَةٌ
وَمَفَاْزَةٌ سَرَحَتْ بِهَا الْغِزْلاْنُ

 

 

فِإِذَاْ عَشِقْتَ، فَكُنْ صَبُوْراً حَيْثُمَاْ
ثَاْرَ الْهَوَىْ، أَوْ وَسْوَسَ الشَّيْطَاْنُ

وَاحْفَظْ فُؤَاْدَكَ إِنْ وَقَعْتَ بِحُبِّ مَنْ
يُغْرَىْ بِهَا الإِنْسَاْنُ وَالْحَيَوَاْنُ

وَانْصِفْ بِحُكْمِكَ فِي الْغَرَاْمِ فَإِنَّهُ
لاْ يَسْتَوِي الإِنْصَاْفُ وَالطُّغْيَاْنُ

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ وَاْحِدٌ مِنْ أُمَّةٍ
هَجَمَتْ عَلْىْ حِمْلاْنِهَا[25] الذُّؤْبَاْنُ[26]

فَدِمَاْءُ حِمْلاْنِ الْغَرَاْمِ مُبَاْحَةٌ
وَلِقَتْلِهَاْ قَدْ سُنَّتِ الأَسْنَاْنُ

فَاحْفَظْ غَرَاْمَكَ مِنْ عَذُوْلٍ سَاْخِطٍ
مُتَآمِرٍ عُنْوَاْنُهُ الأَضْغَاْنُ

إِنَّ الْغَرَاْمَ مُحَاْصَرٌ وَمُهَدَّدٌ
وَعَلَيْهِ ضَاْقَ بِرَحْبِهِ الْمَيْدَاْنُ

فَلِذَاْكَ تَنْتَحِبُ الْبُحُوْرُ لأَجْلِهِ
وَالْغَيْمُ وَالأَنْهَاْرُ وَالْغُدْرَاْنُ

وَالْوَرْدُ يُخْفِيْ فِي الْعُيُوْنِ دُمُوْعَهُ
حُزْناً، وَتَبْكِي الرُّوْحُ وَالرَّيْحَاْنُ

وَدُمُوْعُ زَهْرِ الْيَاْسَمِيْنِ غَزِيْرَةٌ
وَكَذَلِكَ الْجُوْرِيُّ وَالرُّمَّاْنُ

فَلَكَمْ بَكَىْ وَرْدٌ عَلَىْ حُبٍّ قَضَىْ
وَحَدَتْ بِأَشْعَاْرِ الْهَوَى الرُّكْبَاْنُ

وَبَكَى الْحَمَاْمُ عَلَىْ حَبِيْبٍ رَاْحِلٍ
فَتَمَاْيَلَتْ مِنْ حُزْنِهَا الأَغْصَاْنُ

وَرَوَتْ أَحَاْدِيْثَ الْغَرَاْمِ قَبَاْئِلٌ
فَتَضَاْعَفَتْ فِيْ لَيْلِهَا الأَشْجَاْنُ

 



[1]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 304.

 

[2]  - طبقات فحول الشعراء ص: 461، 530.

 

[3]  - الشعر والشعراء، ص: 132.

 

[4]  - نقد الشعر، ص: 42.

 

[5]  - الْعُمدة، ج:2/ ص: 94.

 

[6]  -  ومن هذا البحر قصيدة حِجابُ عفراء، ومطلعها: مُحَجَّبَةٌ عَفْرَاْءُ قَلْباً، وَقَاْلِباً // وَقَلْبِيْ مُعنّىً بِالْجَمَاْلِ الْمُحَجَّبِ
وقصيدة غريب، ومطلعها: أَتَى الصَّيْفُ يَاْ عَفْرَاْ؛ وَأَنْتِ بَعِيْدَةٌ // وَإِنِّيْ ـ بِأَرْضِ الإِنْكِلِيْزِ ـ غَرِيْبُ
وقصيدة السِّنْجَاْبُ الْعَاْشِق، ومطلعها: شَرَحْتُ إِلَى السِّنْجَاْبِ فَحْوَىْ قَضِيَّتِيْ // فَمَاْ فَهِمَ السِّنْجَاْبُ قَوْلِيْ؛ وَهَرْوَلاْ

 

[7]  - ومنه قصيدة عَوْدَةُ الْعِيْد: اَلْعِيْدُ عَاْدَ، وَ مَاْ عَاْدُوْا لِرُؤْيَتِنَاْ // وَلاْ أَتَاْنَاْ ـ مِنَ الأَحْبَاْبِ ـ مَكْتُوْبُ

 

[8]  - ومنه قصيدة جُنُوْحُ الْقَلْب: أَتَتْ عَفْرَاْءُ، فَانْقَطَعَ الْكَلاْمُ // وَغَاْبَ الْبَدْرُ؛ وَابْتَدَأَ الْغَرَاْمُ

 

[9]  - ومنه قصيدة الجمال والحب: أَفْضَىْ لَنَاْ نُوْرُ الصَّبَاْحِ، وَأَخْبَرَاْ // عَنْ قِصَّةٍ فِيْهَا الْغَرَاْمُ تَحَيَّرَاْ

 

[10]  - ومنه قصيدة ضياع الأمل في المعرة: آنِسُوْنِيْ، فَقَدْ أَضَعْتُ شَبَاْبِيْ // بَيْنَ بَيْتٍ؛ وَمَكْتَبٍ؛ وَكِتَاْبِ

 

[11]  - ومنه قصيدة أنا و الوردُ والعصفورُ والحبُّ: ذَبُلَ الْوَرْدُ عَلَىْ أَغْصَاْنِهِ! // وَشَكَا الْجَوْرَ إِلِىْ جِيْرَاْنِهِ!

 

[12]  - ومنه قصيدة شطرنج الحب: أَقُوْلُ لِعَفْرَاْءَ: يَاْ غَاْلِيَهْ // لَعَمْرُكِ مَاْ لَكِ مِنْ ثَاْنِيَهْ

 

[13]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 208- 209.

 

[14]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 71 - 72.

 

[15]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 200.

 

[16]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 201.

 

[17]  - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين بن الأثير، ص، ج: 1/ ص: 33.

 

[18]  - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين بن الأثير، ص، ج: 1/ ص: 37 - 38.

 

[19]  - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين بن الأثير، ص، ج: 1/ ص: 35.

 

[20]  - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين بن الأثير، ص، ج: 1/ ص: 59.

 

[21]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 13.

 

[22]  - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص: 143 - 144.

 

[23]  - عيون الأخبار، ج: 2/ ص: 182.

 

[24]  - عيون الأخبار، ج: 2/ ص: 185.

 

[25]  - الحملان: جمع حمل، وهو صغير الغنم.

 

[26]  - ذؤبان: جمع ذئب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16445217
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة