مكة المكرمة - للاستماع
علوم ومعارف 83-86
Science and knowledge, By Dr. Mahmoud EL-Saied EL- Doghim
إعداد وتقديم وإخراج : د. محمود السيد الدغيم
يتضمن هذا البرنامج أربع حلقات، وفيها: معلومات عن مكة المكرمة بشكل عام وأسمائها، ومكة المكرمة في العصر الجاهلي، وصفات مكة المكرمة، ونشوء الكعبة المطهرة
Launch in external player |
أعدَّ هذا البرنامج الإذاعي اليومي الصباحي وقدّمه: د. محمود السيد الدغيم حينما كان يعمل في محطة ام بي سي اف ام، وكان بثُّ هذا البرنامج بعد صلاة الصبح مباشرة بتوقيت مكة المكرمة، والهدف منه الفصل بين الأذان، وبقية البرامج، وقدَّمَ من هذا البرنامج أكثر من مئتي حلقة بمعدل حلقة واحدة يومياً
وكان تاريخ بث هذه الحلقات المباشر ابتداء من يوم الجمعة 26/5/ 2000م حتى يوم الإثنين 29/5/ سنة 2000م
نأمل لكم وقتاً ممتعا
*******
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان
مَكةُ: بيت الله الحرام
قال بطليموس طولها من جهة المغرب ثمان وسبعون درجة وعرضها ثلاث وعشرون درجة وقيل إحدى وعشرون تحت نقطة السرطان طالعها الثَريا بيت حياتها الثور وهي في الإقليم الثاني.أما اشتقاقها ففيه أقوإل. قال أبو بكر بن الأنباري سميت مكة لأنها تمُك الجبارين أي تذهب نخوتهم ويقال إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم قد امتك الفصيل ضرع أمه إذا مصه مصا شديداً وسميت بمكة لازدحام الناس بها قاله أبو عبيدة وأنشد:
إذا الشريب أخذته أكة فخله حتى يبك بـكة
ويقال مكة اسم المدينة وبكْة اسم البيت، وقال اَخرون مكة هي بكة والميم بدل من الباء كما قالوا ما هذا بضربة لازب ولازم، وقال أبو القاسم هذا الذي ذكره أبو بكر في مكة وفيها أقوال أخر نذكرها لك قال الشرقي بن القطاقي إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجنا حتى نأتي مكان للكعبة فنمك فيه أي نصفر صفير المكاء حول الكعبة وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها والمكاء بتشديد الكاف طائر يأوي الرياض. قال أعرابيٌ ورد الحضر فرأى مُكاءً يصيح فحن إلى بلاده فقال:
ألا آيها المكاءُ ما لـك هـهـنـا ألاة ولا شـيح فـأين تـبــيضُ
فاصعد إلى أرض المكاكي واجتنب قرى الشام لا تصبح وأنت مريضُ
والمكاءُ بتخفيف الكاف والمد الصفير فكأنهم كانوا يحكون صوت المكاء ولو كان الصفير هو الغرض لم يكن مخففاً وقال قوم سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هَبطة بمنزلة المكوك والمكوك عربي أو معرب قد تكلمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء. قال الأعشى:
والمكاكي والصِحاف من الـف ضة والضامرات تحت الرحال
اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمَية بن خلف كما أخرجونا من مكة ووقف رصول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على جمرة العقبة وقال واللهَ إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إليَ ولو لم اخرَج ما خرجت إنها لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد كان بعدي وما أحلت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام لا يعضد شجرها ولا يحتش خلالها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد فقال رجل يا رسول اللهَ إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائتي عام، ووجد على حجر فيها كتاب فيه أنا الله رب بكة الحرام وضعتها يوم وضعتُ الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاءَ لا تزال أخشباها مبارك لأهلها في الحمإ والماء، ومن فضائله أنه من دخله كان آمناً ومن أحدث في غيره من البلدان حدثاً ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود ومن أحدث فيه حدثاً أخذ بحدثه وقوله تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً" القصص: 59 وقوله: "لتنذر أم القرى ومن حولها " الأنعام: 92، دليل على فضلها على سائر البلاد، ومن شرفها أنها كانت لقاحاً لا تدين لدين الملوك ولم يؤد أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحُمى من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضاً وشرفاً عندهم عظيماً وكان أهله آمنين يَغزون الناس ولا يُغزون ويسبون ولا يُسبَون ولم تسبَ قرَشية قط فتُوطأ قهراَ ولا يجال عليها السهام، وقد ذكر عزهم وفضلهم الشعراء، فقال بعضهم:
أبوا عين الملوك فهم لَقـاح إذا هيجوا إلى حرب أجابوا
وقال الزِبرِقان بن بدر لرجل من بني عوف كان قد هَجا أبا جهل وتناوَلَ قريشأ:
أتدري مَن هَجوت أبا حبيب سليلَ خضارم سكنوا البطاحا
أزادَ الركبِ تذكر أم هشامـاً وبيت الله والبلد اللـقـاحـا
وقال حرب بن أمَية ودعا الحضرمي إلى نزول مكة وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاءُ حرب بن أمية وأراد الحضرمي أن ينزل خارجاً من الحرم وكان يكنى أبا مطر فقال حرب:
أبا مطر هَلم إلى الصـلاح فيكفيك الندامَى من قـريش
وتنزل بلدةَ عـزت قـديمـاً وتأمن أن يزورك رب جَيش
فتأمن وَسطهم وتعيش فيهـم أبا مطر هدِيتَ بخير عَـيش
ألا ترى كيف يُؤمنه إذا كان بمكة ومما زاد في فضلها وفضل أهلها ومباينتهم العرب أنهم كانوا حلفاء . متألفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم عليه السلام ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب وكانوا يختنون أولادهم ويحجون البيت ويقيمون المناسك ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة وتبرأوا من الهربذة وتباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت غيرة وبعداً من المجوسية ونزل القرآن بتوكيد صنيعهم وحسن اختيارهم وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثاً ولذلك قال عبد اللهَ بن عباس وقد سأله رجل على طلاق العرب فقال كان الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم هو أحق بها فإن طلقها اثنتين فهو أحق بها أيضاَ فإن طلقها ثلاثاً فلا سبيل له إليها، ولذلك قال الأعشَى:
أيا جارتي بِيني فـإنـكِ طـالـقة كفاك أمورُ الناس غادٍ وطـارقة
وبِيني فقد فارقـتِ غـير ذمـيمة وموموقة منا كما أنـت وامـقة
وبِيني فإن البَينَ خير من العَـصـا وأن لا تري لي فوق رأسك بارقة
ومما زاد في شرفهمِ أنهم كانوا يتزوجون في أي القبائل شاؤوا ولا شَرط عليهم في ذلك ولا يزوجون أحدآ حتى يشرطوا عليه بأن يكون متحمساَ على دينهم يرون أن ذلك لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم وينتقل إليهم والتحمس الشديد في الدين ورجل أحمَسُ أي شجاع فحمسوا خزاعة ودانت لهم إذ كانت في الحرم وحمسوا كنانة وجديلة قيس وهم فهم وعَدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان وثقيفأ لأنهم سكنوا الحرم وعامر بن صعصعة وإن لم يكونوا من ساكني الحرم فإن أمَهم قرشية وهي مجد بنت تيم بن مرة وكان من سُنة الحصى أن لا يخرجوا أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة وكانوا لا يسلأون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزاً ولا بقرةَ ولا يغزلون صوفاً ولا وبراً ولا يدخلون بيتاً من الشعرِ والمدر وإنما يكتنون بالقباب الحُمر في الأشهر الحرم ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم وأن يخلوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم إما شرىً وإما عارية وإما هبةً فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عَرايا وفرضوا على نساءِ العرب مثل ذلك إلا أن المرأة كانت تطوف في درع مفرّج المقاديم والمآخير. قالت امرأة وهي تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أو كُلهُ وما بدا منه فلا أحلـهُ
أخثَمُ مثل القعب باد ظلُه كأن حُمى خَيبر تملـهُ
وكلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة وقد كانت تفيض من عرفة أيام كان المُلك في جرهُم وخزاعة وصدراً من أيام قريش فلولا أنهم أمنع حي من العرب لما أقرتهم العرب على هذا العز والإمارة مع نَخوة العرب في إبائها كما أجلَى قُصي خزاعة وخزاعةُ جُرهُماً فلم تكن عيشتهم عيشة العرب يهتبدون الهبيد ويأكلون الحشرات وهم الذين هشموا الثريد حتى قال فيهم الشاعر:
عمرو العُلى هشم الثريدَ لقومه ورجالُ مكة مسنتون عِجافُ
حتى سمي هاشماً وهذا عبد الله بن جُدعان التَيمي يُطعم الرغوَ والعسل والسمن ولب البر حتى قال فيه أمية بن أبي الصَلت:
له داع بمكة مشـمـعِـل وآخر فوق دارته يُنـادي
إلى ردح مِن الشيزي مِلاء لُباب البر يُلْبَكُ بالشـهـاد
وأول من عمل الحريرة سُوَيد بن هرمي ولذلك قال الشاعر لبني مخزوم:
وعلمتُم كل الحرير وأنـتـمُ أعلى عداة الدهر جد صِلاَب
والحريرة: أن تنصب القدر بلحم يقَطًع صغاراً على ماءٍ كثير فإذا نَضجَ ذر عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة وقيل غير ذلك، وفضائل قريش كثيرة وليس كتابي بصددها، ولقد بلغ من تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يَحجون البيت ويعتمرون ويطوفون فإذا أرادوا الانصراف إخذ الرجل منهم حجراً من حجارة الحرم فنَحته على صورة أصنام البيت فيحفى به في طريقه ويجعله قبلة ويطوفون حوله ويتمسحون به ويصلون له تشبيهاً له بأصنام البيت وأفضى بهم الأمر بعد طول المدة أنهم كانوا يأنفون الحجر من الحرم فيعبدونه فذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفاً منها بأصنام الحرم، وقد ذكرت كثيراً من فضائلها في ترجمة الحرم والكعبة فأغنى عن الاعادة، وأما رؤساءُ مكة فقد ذكرناهم في كتابنا المبدإ والمآل وأعيد ذكرهم ههنا لأن هذا الموضع مفتقرَ إلى ذلك.
قال أهل الإتقان من أهل السبر إن إبراهيم الخليل لما حمل ابنه إسماعيل عليه السلام إلى مكة كما ذكرنا في باب الكعبة من هذا الكتاب جاعت جرهُم وقَطُوراءُ وهما قبيلتان من اليمن وهما ابنا عم وهما جرهم بن عامر بن سبإ بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام وقَطُوراء فرأيا بلد ذا ماءٍ وشجر فنزلا ونكح إسماعيل في جرهُم فلما تُوُفي ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل وهو أكبر ولده ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل ما شاءَ اللهَ أن يليه ثم تنافست جرهم وقطوراء في الملك وتداعوا للحرب فخرجت جرهم من قُعيقعان وهي أعلى مكة وعليهم مضاض بن عمرو وخرجت قطوراء من أجياد وهي أسفل مكة وعليهم السميدَع فالتقوا بفاضح واقتتلوا قتالاَ شديداً فقُتل السميدع وانهزمت قطوراء فسمي الموضع فاضحاٌ لأن قطوراء افتضحت فيه وسميت أجياد أجياداَ لما كان معهم من جياد الخيل وسميت قعيقعان لقعقعة السلاح ثم تداعوا إلى الصلح واجتمعوا في الشعب وطبخوا القدور فسمي المطابخ. قالوا ونشر الله ولد إسماعيل فكثروا وربلوا ثم انتشروا في البلاد لا يُناوئون قوماَ إلا ظهروا عليهم بدينهم.
ثم إن جرهما بغوا بمكة فاستحلوا حرامأ من الحرمة فظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وكانت مكة تسمى النسناسة لا تُقِر ظلماً ولا بغيا ولا يبغي فيها أحل على أحد إلا أخرجته فإن بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن غسان وخزاعة حُلولاً حول مكة فآذنوهم بالقتال فاقتتلوا فجعل الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر يقول:
لا هم إنْ جُرهما عبادك الناس طرفٌ وهمُ تِلادك
فغلبتهم خزاعة على مكة ونفتهُم عنها. ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر:
كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا أنيس ولمٍ يسمر بـمـكة سـامـرُ
ولم يتربع واسطـا فـجـنـوبـه إلى السر من وادي الأراكة حاضرُ
بلى نحنُ كنا أهلَـهـا فـأبـادنـا صروفُ الليالي والجدودُ العواثـرُ
وأبدلنـا ربـي بـهـا دار غـربةٍ بها الجوعُ بادِ والعدوُ المحـاصـرُ
وكنا وُلاةَ البيت من بعـد نـابـت نطوف بباب البيت والخير ظاهـرُ
فأخرجَنا منها المـلـيكُ بـقـدرة كذلك ما بالناس تجري المـقـادر
فصرنا أحاديثاَ وكـنـا بـغِـبـطة كذلك عَضتنا السنون الـغـوابـرُ
وبدلنا كـعـبٌ بـهـا دارَ غُـربة بها الذئب يعوي والعدوُ المكـاثـرُ
فسحت دموع العين تجري لبـلـدة بها حَرم أمن وفيها المـشـاعـرُ
ثم وليت خزاعة البيت ثلاثمائة سنة يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى كان اَخرهم حُليل بن حبشية بن سَلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء الخزاعي وقريش إذ ذاك هم صريحُ ولد إسماعيل حُلول وصرم وبيوتات متفرقة حوالي الحرم إلى أن أدرك قُصي بن كلاب بن مرَة وتزوج حبَى بنت حُليل بن حبشية وولدت بنيه الأربعة وكَثُر ولده وعظم شرفه ثم هلك حليل بن حبشية وأوصى إلى ابنه المحتَرش أن يكون خازناَ للبيت وأشرك معه غبشان الملكاني وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني فيقال أن قُصَيا سقى المحترش الخمر وخدَعه حتى اشترى البيت منه بدَن خمر وأشهد عليه وأخرجه من البيت وتملك حجابته وصار رب الحكم فيه فقُصي أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل وذلك في أيام المنذر بن النعمان على الحيرة والملك لبهرام جور في الفرس، فجعل قصي مكة أرباعاَ وبَنى بها دار الندوَة فلا تزوج امرأة إلا في دار الندوة ولا يعقد لواءٌ ولا يعذر غلام ولا تدَرع جارية إلا فيها وسميت الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها للخير والشر فكانت قريش تُؤدي الرفادة إلى قصي وهو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه فيصنع طعاماً وشراباً للحاج أيام الموسم، وكانت قبيلة من جُرهم اسمها صوفة بقيت بمكة تلي الإجازة بالناس من عرفة مدة وفيهم يقول الشاعر:
ولا يريمون في التعريف موقعهم حتى يقال أجيزوا اَل صوفانـا
ثم أخذتها منهم خزاعة وأجازوا مدة ثم غلبهم عليها بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان وصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سَيارة أحد بني سعد بن وابش بن زيد بن عدوان، وله يقول الراجز:
خلوا السبيل عن أبي سيارَة وعن مواليه بني فَـزَارَة
حتى يجيز سالماً حِمـاره مستقبل الكعبة يدعو جارَه
وكانت صورة الإجازة أن يتقدَمهم أبو سيارة على حماره ثم يخطبهم فيقول اللهم أصلح بين نسائنا وعادِ بين رعائنا واجعل المال في سُمحائنا وأوفوا بعهدكم وأكرموا جاركم. واقروا ضيفكم ثم يقول أشرق ثبير كيما نغير ثم ينفذ ويتبعه الناس، فلما قوي أمر قصي أتى أبا سيارة وقومه فمنعه من الإجازة وقاتلهم عليها فهزمهم فصار إلى قصي البيت والرفادة والسقاية والندوة واللواء، فلما كبر قصي ورق عظمه جعل الأمر في ذلك كله إلى ابنه عبد الدار لأنه أكبر ولده وهلك قصي وبقيت قريش على ذلك زماناً ثم إن عبد مناف رأى في نفسه وولده من النباهة والفضل ما دلهم على أنهم أحق من عبد الدار بالأمر فأجمعوا على أخذ ما بأيديهم وهَموا بالقتال فمشَى الأكابر بينهم وتداعوا إلى الصلح على أن يكون لعبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار وتعاقدوا على ذلك حلفاً مؤكداً لاينقضونه ما بل بحر صوفة فأخرجت بنو عبد مناف ومن تابعهم من قريش وهم بنو الحارث بن فهر وأسد بن عبد العزى وزُهرة بن كلاب وتيم بن مرة جفنةً مملؤَة طيباً وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة توكيداً على أنفسهم فسموا المطيبين وأخرجت بنو عبد الدار ومن تابعهم وهم مخزوم بن يقظة وجُمَح وسهم وعدي بن كعب جفنة مملوءة دماً وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة فسموا الأحلاف ولَعَقَة الدم ولم يل الخلافة منهم غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه والباقون من المطيبين فلم يزالوا على ذلك حتى جاءَ الإسلام وقريش على ذلك حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في سنة ثمان للهجرة فأقر المفتاح في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ المفاتيح منه عام الفتح فأنزلت" إن الله يأمركم أن تُؤدوا الأمانات إلى أهلها" النساء: 58 فاستدعاه ورد المفاتيح إليه وأقر السقاية في يد العباس فهي في أيديهم إلى الآن، وهذا هو كافٍ من هذا البحث، وأما صفتها يعني مكة فهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جميع النواحي محيطة حول الكعبة وبناؤها من حجارة سود وبيض وعلوها آجر كثيرة الأجنحة من خشب الساج وهي طبقات لطيفة مبيضة حارة في الصيف إلا أن ليلها طيب وقد رفع الله عن أهلها مؤونة الاستدفاءِ وأراحهم من كلف الاصطلاءِ وكل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة وما ارتفع عنه يسمونه المعلاة وعرضها سعة الوادي والمسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة والكعبة في وسط المسجد وليس بمكة ماء جارٍ ومياهها من السماء، وليست آبار يشربون منها وأطيبها بئر زمزم ولا يمكن الإدمان على شربها وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جُزْت الحرم فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل وأما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة، وأما المسافات فمن الكوفة إلى مكة سبع وعشرون مرحلة وكذلك من البصرة إليها ونقصان يومين ومن دمشق إلى مكة شهر ومن عدن إلى مكة شهر وله طريقان أحدهما على ساحل البحر وهو أبعَدُ والآخر يأخذ على طريق صنعاء وصعدة ونجران والطائف حتى ينتهي إلى مكة ولها طريق آخر على البوادي تهامة وهو أقرب من الطريقين المذكورين أولاً على أنها على أحياء العرب في بواديها ومخالفها لا يسلكها إلا الخواص منهم وأما أهل حضرموت ومهرَةَ فإنهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادة التي بين عدن ومكة والمسافة بينهم إلى الأمصار بهذه الجادة من نحو الشهر إلى الخمسين يوماً وأما طريق عُمَان إلى مكة فهو مثل طريق دمشق صعب السلوك من البوادي والبراري القفر القليلة السُكان وإنما طريقهم في البحر إلى جدة فإن سلكوا على السواحل من مهرة وحضرموت إلى عدن بَعُدَ عليهم وقل ما يسلكونه وكذلك ما بين عُمَان والبحرين فطريق شاق يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم فيه
*****
وقال محمد بن عبد المنعم الحِميري في
الروض المعطار في خبر الأقطار
بكة:
هو اسم من أسماء مكة شرفها الله تعالى تبدل الميم من الباء، قال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة" . قيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا، وقيل بكة اسم لبطن مكة لأنهم كانوا يتباكون فيها أي يزدحمون، وقيل بكة موضع البيت ومكة ما حواليه، وقيل بكة ما ولي البيت ومكة ما حواليه، والذي عليه أهل اللغة أن بكة ومكة شيء واحد، وهي مدينة قديمة البناء أزلية معمورة مقصودة من جميع الأراضي الإسلامية وإليها حجهم، وهي بين شعاب الجبال، وطولها من جهة الجنوب إلى الشمال نحو ميلين، ومن أسفل جبل أجياد إلى ظهر جبل قعيقعان مثل ذلك، والمدينة مبنية في وسط هذا الفضاء وبنيانها بالحجارة والطين، وأحجارها من جبالها، وأسواقها قليلة؛ وفي وسط مكة مسجدها الجامع المسمى الحرم وليس لهذا الجامع سقف إنما هو دائر كالحظيرة، والكعبة هو البيت المسقف في وسط الحرم، وهذا البيت طوله من خارجه من ناحية المشرق أربع وعشرون ذراعا وكذلك طول الشقة التي تقابلها من جهة المغرب، وبشرقي هذا الوجه باب الكعبة وارتفاعه عن الأرض نحو القامة. وسطح الكعبة من داخل مساو لأسفل الباب وفي ركنه الحجر الأسود، وطول الحائط الذي من جهة الشمال وهو الشامي ثلاث وعشرون ذراعا وفيه حجر أبيض يقال إنه قبر إسماعيل عليه السلام، وفي الجهة الشرقية من الحرم قبة العباس وبئر زمزم. وما استدار بالكعبة كله حطيم توقد فيه بالليل المصابيح، وللكعبة سقفان وماء السقف الأعلى يخرج عنه إلى خارج البيت في ميزاب من الخشب وذلك الماء يقع على الحجر الذي قيل إنه قبر إسماعيل عليه السلام، والبيت كله من خارج على استدارته مكسو ثياب الحرير العراقية فلا يظهر منه شيء، وهذه الكسوة معلقة فيه بأزرار وعرى يرسلها خليفة بغداد في كل سنة وتزال الأخرى عنها ولا يقدر أحد أن يكسوها غيره فيما سلف والآن يرسلها صاحب مصر، وارتفاع سمك البيت سبع وعشرون ذراعا، ويقال إن الكعبة كانت خيمة لآدم مبنية بالطين والحجارة فهدمها الطوفان وبقيت مهدمة إلى مدة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فأمرهما الله تعالى ببنيانها فتعاونا على بنائها. ومياه مكة زعاق لا تسوغ لشارب وأطيبها ماء زمزم وهو شروب لا يمكن إدمان شربه، وليس لصاحب مكة عسكر خيل إنما هم الرجالة تسمى الحرابة. ولمكة موسمان ينفق فيهما كل ما جلب إليها، أحدهما أول رجب، والثاني موسم الحجيج، ولأهلها أموال فاشية ولا زرع بها ولا حنطة إلا ما جلب إليها من سائر البلاد. والتمر يأتي إليها كثيرا مما حولها والعنب يجلب إليها من الطائف. ومن مكة إلى المدينة على الجادة نحو عشر مراحل.
وعن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض حزن واشتد بكاؤه على الجنة فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة فوضعها له بمكة في موضع الكعبة وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة فيها قناديل من ذهب ونزل معها الركن وهو ياقوتة بيضاء وكان كرسياً لآدم عليه السلام يجلس عليه، فلما كان الغرق زمن نوح عليه السلام رفع ومكثت الكعبة خراباً ألفي سنة حتى أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني بيته فبنى هو وإسماعيل البيت ولم يجعلا له سقفاً وحرس الله تعالى البيت بالملائكة، والحرم مقام الملائكة يومئذ، وهو أول بيت وضع للناس، وبنته قريش قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
وفي خبر آخر أن البيت انهدم بعد إبراهيم عليه السلام فبنته العمالقة ثم انهدم فبنته جرهم ثم انهدم فبناه قصي بناء لم يبن أحد مثله.
ثم احترقت الكعبة واحترق الركن الأسود وضعفت جدرانها حتى إن الحمام ليقع عليها فتتناثر حجارتها، ففزع أهل مكة لذلك والحصين بن نمير محاصر لابن الزبير رضي الله عنهما، فهدمها ابن الزبير بعد مشاورة الناس واختلافهم عليه، فلما أراد هدمها خرج أهل مكة إلى منى خوف أن ينزل العذاب وما اجترأ على هدمها أحد، فعلاها ابن الزبير بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي حجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا وهدموا وأرقى ابن الزبير رضي الله عنهما عبداً من الحبش يهدمها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، فما ترجلت الشمس حتى ألحقها كلها بالأرض. وقال ابن الزبير رضي الله عنهما: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء الكعبة وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر أذرعاً ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها" قالت، قلت: لا. قال صلى الله عليه وسلم: "تعززاً لئلا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخل دفعوه فسقط فإن بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها" فأراها قريباً من سبع أذرع، فلما هدمها ابن الزبير رضي الله عنهما وسواها بالأرض وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجد داخلاً إلى الحجر نحواً من ست أذرع وشبر كأنه أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض كتشبيك الأصابع تحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فأشهد ابن الزبير رضي الله عنهما الناس على ذلك الأساس وأدخل بعضهم عتلة في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها ورجفت مكة رجفة شديدة حين تزعزع الأساس وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم من أشار على ابن الزبير بهدمها وسقط في أيديهم، ثم وضع ابن الزبير رضي الله عنهما البناء على ذلك الأساس، ولما قتل ابن الزبير رضي الله عنهما ودخل الحجاج مكة كتب إليه عبد الملك أن ابن الزبير قد زاد في بيت الله ما ليس فيه وأحدث باباً آخر، فهدم الحجاج منه ست أذرع وشبراً مما يلي الحجر وبناها على أساس قريش، وآخر من زاد في الكعبة أمير المؤمنين المهدي سنة أربع وستين ومائة فهو على ذاك الآن، وهذا باب يتسع القول فيه فليقتصر على هذا القدر.
****
وقال ابن الوردي الحفيد في كتاب خريدة العجائب وفريدة الغرائب
لمعرفة كتاب ابن الوردي وتحميله اضغط هنا
أرض الحجاز: وهي تقابل أرض الحبشة وبينهما عرض البحر. ومن مدنها المشهورة مكة المشرفة وهي مدينة قديمة. روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب البهجة قصة بناء البيت الحرام، قال: وهو حرم مكة وكعبة الإسلام وقبلة المؤمنين، والحج إليه أحد أركان الدين.
ابتداء البيت الحرام
واختلف العلماء في ابتداء بناء البيت الحرام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الله تعالى وضعه، ليس ببناء أحد. ثم في زمان وضعه إياه قولان: أحدهما قبل خلق آدم عليه السلام. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وكانت الكعبة خشفة على الماء وعليها ملكان يسبحان الله تعالى، الليل والنهار، قبل خلق الأرض بألفي عام. والخشفة الأكمة الحمراء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كان عرش الرحمن على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض بعث الله ريحاً فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع البيت كأنها قبة، فدحا الأرض من تحتها. وقال مجاهد: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي عام، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: كانت الكعبة غشاء على الماء قبل أن يخلق الله الأرض والسموات بأربعين سنة. وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة فلما هبط آدم إلى الأرض أنزل الله عليه الحجر الأسود فأخذه فضمه إليه استئناساً به. وحج آدم فقالت له الملائكة: لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. فقال آدم: رب اجعل له عماراً من ذريتي. فأوحى الله تعالى إليه: إني معمره ببناء نبي من ذريتك اسمه إبراهيم.
القول الثاني: أن الملائكة بنته. قال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه: لما قالت الملائكة: "أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها" غضب الرب عز وجل عليهم فلاذوا بالعرش مستجيرين يطوفون حوله، يسترضون رب العالمين فرضي سبحانه وتعالى عنهم فقال عز وجل ابنوا لي بيتاً في الأرض يعوذ به كل من سخطت عليه كما فعلتم أنتم بعرشي.
القول الثالث: أن آدم لما أُهبط من الجنة أوحى الله إليه أن ابن لي بيتاً واصنع حوله كما صنعت الملائكة حول عرشي، وافعل كما رأيتهم يفعلون، فبناه.
أبو صالح عن ابن العباس، وروى عطية عنه أيضاً، قال: بنى آدم البيت في خمسة أجبل: لبنان وطورسينا وطوزيتا والجردى وحراء. قال وهب ابن منبه: لما مات آدم بناه بنوه بالطين والحجارة فنسفه الغرق. قال مجاهد: وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول، وكان يأتيها المظلوم ويدعو عندها المكروب. وقال عز وجل: "وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيت وإسماعيلُ" وهما أول من بنى البيت بعد الطوفان على القواعد الأزلية الأولية، فنسب بناء البيت إلى إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يثرب: وهي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودار هجرته الشريفة، وبها قبره صلى الله عليه وسلم وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وهي مدينة في غاية الحسن في مستوى من الأرض، وعليها سور قديم. وحولها نخل كثير وتمرها في غاية الطيب والحلاوة. ولها مخاليف وحصون، منها وادي العقيق. وبها نخل مزارع أيضاً وقبائل من العرب، والبقيع كذلك. ووادي القرى وهو حصين بين الجبال وبه بيوت منقورة في الصخور، وتسمى تلك النواحي الأثالب وبها كانت ثمود، وبها الآن بئر ثمود ودومة الجندل، وهو حصن منيع. وتبوك وهي قرية حسنة ولها حصن من حجر. وفدك كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدين مقر شعيب عليه السلام.
أرض نجد: وهي أرض عظيمة واسعة كثيرة الخير، وهي بين الحجاز واليمن، وبها مياه جارية وثمار وأشجار في غاية الرخص.