آداب العماد الأصبهاني
 
علوم ومعارف : 61 - 62

Science and knowledge, By Dr. Mahmoud EL-Saied EL- Doghim
إعداد وتقديم وإخراج : د. محمود السيد الدغيم
يتضمن هذا البرنامج حلقتين نقدم فيهما معلومات عن فن الكتابة ودور العماد الأصبهاني فيها في العهد الأيوبي، ورسالة فتح القدس وتحريرها من الصليبيين للعماد الأصبهاني

     


أعدَّ هذا البرنامج الإذاعي اليومي الصباحي وقدّمه: د. محمود السيد الدغيم حينما كان يعمل في محطة ام بي سي اف ام، وكان بثُّ هذا البرنامج بعد صلاة الصبح مباشرة بتوقيت مكة المكرمة، والهدف منه الفصل بين الأذان، وبقية البرامج، وقدَّمَ من هذا البرنامج أكثر من مئتي حلقة بمعدل حلقة واحدة يومياً، وكان تاريخ بث هذه الحلقات  المباشر يوم الخميس:/ 20/7/2000م، ويوم الجمعة: 21/7/ 2000م
نأمل لكم وقتاً ممتعاً

عماد الدين الأصبهاني
519 - 597 هـ / 1125 - 1201 م
محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله أبو عبد الله عماد الدين الأصبهاني.
مؤرخ عالم بالأدب، من أكابر الكتاب، ولد في أصبهان، وقدم بغداد حدثاً، فتأدب وتفقه.
واتصل بالوزير عون الدين "ابن هبيرة" فولاه نظر البصرة ثم نظر واسط، ومات الوزير، فضعف أمره، فرحل إلى دمشق.
فاستخدم عند السلطان "نور الدين" في ديوان الإنشاء، وبعثه نور الدين رسولاً إلى بغداد أيام المستنجد ثم لحق بصلاح الدين بعد موت نور الدين.
وكان معه في مكانة "وكيل وزارة" إذا انقطع (الفاضل) بمصر لمصالح صلاح الدين قام العماد مكانه.
لما ماتَ صلاح الدين استوطن العماد دمشق ولزم مدرسته المعروفة بالعمادية وتوفي بها.
له كتب كثيرة منها (خريدة القصر - ط) وغيره، وله (ديوان شعر).

وقد ترجم له ياقوت الحموي في كتابه إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: معجم الأدباء فقال

محمد بن حامد بن عبد الله بن علي
أبو عبد الله المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني. ولد بأصبهان يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة ونشأ بها، وقدم بغداد شاباً وانتظم في سلك صلبة المدرسة النظامية فتفقه بها بأبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، وسمع منه ومن أبي بكر الأشقر وأبي الحسن علي بن عبد السلام وأبي القاسم علي بن الصباغ وأبي منصور بن خيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وجماعة. وأجاز له أبو عبد الله الفراوي وأبو القاسم بن الحصين، ثم عاد إلى أصبهان فتفقه بها أيضاً على محمد بن عبد اللطيف الخجندي، وأبي المعالي الوركاني، ثم رجع إلى بغداد واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط. ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه، أقام العماد مدة ببغداد منكد العيش فانتقل إلى دمشق ووصل إليها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية المنسوبة إلى العماد الآن المعروفة بالعمادية، وإنما نسبت إليه لأن الملك نور الدين ولاه إياها سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان العماد له معرفة بنجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، عرفه بتكريت حين كان نجم الدين والياً عليها، فلما سمع نجم الدين بوصوله بادر لتبجيله والسلام عليه في منزله. ومدحه العماد إذ ذاك بقصيدة أولها: يوم الـنـوى لـيس مـن عـمـري بــمـــحـــســـوب  ولا الـفـراق إلـى عـيشـــي بـــمـــنـــســـوب
ما اخترت بعدك لكن الزمان أتىكرها بما ليس يا محبوب محبوبي 
أرجو إيابي إليكم غانماً عجلاً  فقــد ظـــفـــرت بـــنـــجـــم الـــدين أيوب
موفـق الـرأي مـاضـي الــعـــزم مـــرتـــفـــع  علـــى الأعـــــاجـــــــم والأعـــــــاريب
أحـبــك الـــلـــه إذ لازمـــت نـــصـــرتـــه  علـى جـبـين بـتـاج الـمـلــك مـــعـــصـــوب
  وهي طويلة فشكره نجم الدين وأحسن إليه وأكرمه، وقدمه على الأعيان وميزه وعرف به ابنه صلاح الدين، وكان القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يحضر مجالس العماد ويذاكره بمسائل الخلاف في الفروع، فنوه القاضي بذكر العماد عند السلطان نور الدين، وذكر له تقدمه في العلم والكتابة وأهله لكتابة الإنشاء، فتردد العماد في الدخول فيما لم يتقدم له اشتغال طويل به، مع توفر مواد هذه الصناعة عنده خوفاً من التقصير فيما لم يمارسه، ثم أقدم بعد الإحجام فباشرها وأجاد فيها حتى زاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم، وكان ينشئ الرسائل بالفارسية أيضاً فيجيد فيها إجادته بالعربية، وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سره، وفوض إليه تدريس المدرسة العمادية كما تقدم، وولاه الإشراف على ديوان الإنشاء، ولما توفي نور الدين وولى ابنه الملك الصالح إسماعيل أغراه بالعماد جماعة كانوا يحسدونه ويكرهونه، فخاف على نفسه وخرج من دمشق قاصداً بغداد، فوصل إلى الموصل ومرض بها ولما أبل من مرضه، بلغه خروج السلطان صلاح الدين من مصر قاصداً دمشق ليستولي عليها، فعزم على الرجوع إلى الشام وخرج من الموصل سنة سبعين وخمسمائة فوصل إلى دمشق وسار منها إلى حلب، وصلاح الدين يومئذ نازل عليها فلاقاه في حمص وقد استولى على قلعتها، فلزم بابه ومدحه بقصيدة طويلة كان نظمها قبلاً في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها فجعل مدح صلاح الدين مخلصها أولها:
أجيران جيرون مالي مـجـير   سوى عدلكم فاعدلوا أو فجوروا 
ومالي سوى طـيفـكـم زائر   فلا تمنعـوه إذا لـم تـزوروا
يعـز عـلـي بـأن الـفـؤاد   لديكم أسير وعـنـكـم أسـير
وماكنـت أعـلـم أنـي أعـي  ش بعد الأحبة إنـي صـبـور
وفت أدمعي غير أن الـكـرى   وقلبي وصبري كـل غـدور
إلى ناس باناس لـي صـبـوة   لها الوجد داع وذكرى تـثـير
يزيد اشتياقي وينـمـو كـمـا   يزيد يزيد وثــور يثـــور
ومن بردى برد قلبي المشـوق   فها أنا من حـره أسـتـجـير
وبالمرج مرجو عيشـي الـذي   على ذكره العذب عيشي مرير
فقدتكـم فـفـقـدت الـحـياة   ويوم اللقاء يكون الـنـشـور
تطاول سؤلي عند الـقـصـي ر  فعن نيله اليوم باعي قـصـير
وكن لي بريداً ببـاب الـبـريد   فأنت بأخبار شوقـي خـبـير
 
ومنها:
ترى بالسلامة يومـاً يكـون   بباب السلامة مني عبـور؟
وإن جوازي بباب الصغـير   لعمري من العمر حظ كبير 
وماجنة الخلد إلا دمـشـق   وفي القلب شوقاً إليها سعير 
وجامعها الرحب والقـبة ال  منيفة والفلك المـسـتـدير
وفي قبة النسر لـي سـادة   بهم للمكارم أفـق مـنـير
وباب الفراديس فردوسـهـا   وسكانها أحسن الناس حور
وبرزة فالسهم فالـنـيربـا  ن فجنات رقتها فالكفـور
كان الجواسـق مـأهـولة   بروج تطلع منها الـبـدور
بنيربها يستـنـير الـفـؤاد   ويربو بربوتها لي السرور
 
ومنها:
وأين تأمـلـت فـلـك يدور   وعين تفور ونهـر يمـور
وأين نظـرت نـسـيم يرق   وزهر يروق وروض نضير 
ومنذ ثـوى نـور دين الإ ل  ه لم يبق للدين والشام نـور
وللناس بالملك الناصر الـص  لاح ونـصـر وخـــير
هو الشمس أنوارها بالبـلاد   ومطلعها سرجه والسـرير
إذ ما سطا أو حبا واحتـبـي   فما الليث أو حاتم أو ثـبـير
بيوسـف مـصـر وأيامـه   تقر العيون وتشفي الصدور

  وقد أطال نفسه في هذه القصيدة وكلها غرر وقد اكتفينا بما أوردناه منها، ثم لزم العماد من ذلك اليوم باب السلطان صلاح الدين ينزل لنزوله، ويرحل لرحيله، ولم يغش مجالسه ملازماً لخدمته حتى قربه واستكتبه واعتمد عليه، فتصدر وزاحم الوزراء وأعيان الدولة، وعلا قدره وطار صيته، وكان إذا انقطع القاضي الفاضل عن الديوان ناب عنه في النظر عليه وألقى إليه السلطان مقاليده، وركن إليه بأسراره فتقدم الأعيان، وأشير إليه بالبنان، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وكلا القولين يقرأ عكساً وطرداً واجتمعا يوماً في موكب السلطان وقد ثار الغبار لكثرة الفرسان وتعجب القاضي من ذلك، فأنشد العماد:
أمـا الـغـبـار فـإنـه  مما أثارته السـنـابـك
والجو مـنـه مـظـلـم  لكن أنارته السـنـابـك
يا دهر لي عبـد الـرح  يم فلست أخشى مس نابك 
ولما توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله اختلت أحوال العماد ولزم بيته، وأقبل على التصنيف والإفادة حتى توفي يوم الاثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة،

وله من المصنفات: خريدة القصر وجريدة العصر، ذيل به زينة الدهر لأبي المعالي سعد بن علي الحظيري الوراق، جمع العماد في هذا الكتاب تراجم شعراء الشام والعراق ومصر والجزيرة والمغرب وفارس ممن كان بعد المائة الخامسة إلى ما بعد سنة سبعين وخمسمائة، وهو يدخل في عشر مجلدات لطيفة،
وله البرق الشامي وهو تاريخ بدأ فيه بذكر نفسه ونشأته ورحلته من العراق إلى الشام، وأخباره مع الملك العادل نور الدين والسلطان صلاح الدين وما جرى له في خدمتهما، وذكر فيه بعض الفتوحات بالشام وأطرافها وهو بضعة مجلدات،
وله الفيح القسي في الفتح القدسي في مجلد كبير،
وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلاً على كتابه خريدة القصر،
وله نصرة الفطرة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية،
وله رسالة سماها عتبى الزمان وتسمى أيضاً العتبى والعقبى،
وكتاب سماه نحلة الرحلة، ذكر فيه اختلال الأحوال وتغير الأمور بعد موت السلطان صلاح الدين، واختلاف أولاده وما وقع من الخلاف بين الأمراء والعمال،
وله ديوان رسائل في مجلدات،
وديوان شعر في مجلدين،
وديوان دويبت صغير وغير ذلك.

  ومن إنشاء العماد الكاتب الكتاب الذي كتبه عن السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد مبشراً بفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة افتتحه بقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)،

ثم قال: الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيدأهل الشرك والخلاف، وخص سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، ومكن دينه المرتضى وبدل الأمان بالمخافة، وذخر هذا الفتح الأسني والنصر الأهني للعصر الإمامي النبوي الناصري على يد الخادم أخلص أوليائه، والمختص من الاعتزاز باعتزائه إليه وانتمائه، وهذا الفتح العظيم، والنجح الكريم، قد انقرضت الملوك الماضية والقرون الخالية على مسرة تمنيه، وحبرة ترجيه، ووحشة اليأس من تسنيه، وتقاصرت عنه طوال الهمم، وتخاذلت عن الانتصار له أملاك الأمم، فالحمد لله الذي أعاد القدس إلى القدس، وطهره من الرجس، وحقق من فتحه ما كان في النفس، وبدل بوحشة الكفر فيه من الإسلام الأنس، وجعل عز يومه ماحياً ذل أمس، وأسكنه الفقهاء والعلماء بعد الجهال والضلال من بطرك وقسٍ، وعبدة الصليب ومستقبلي الشمس، وقد أظهر الله على المشركين الضالين جنوده المؤمنين العالمين، وقطع دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين.

فكأن الله شرف هذه الأمة فقال لهم: اعزموا على اقتناء هذه الفضيلة التي بها فضلكم، وحقق في حقكم امتثال أمره الذي خالفه اليهود في قوله: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). هذا الفتح قد أقدر الله على افتضاضه بالحرب العوان، وجعل ملائكته المسومة له من أعز الأنصار وأظهر الأعوان، وأخرج من بيته المقدس يوم الجمعة أهل يوم الأحد، ومع من كان يقول: (إن الله ثالث ثلاثةً) بمن يقول: (هو الله أحد)، وأعان الله بإنزال الملائكة والروح، وأتى بهذا النصر الممنوح الذي هو فتح الفتوح، وقد تعالى أن يحيط به وصف البليغ نظماً ونثراً، وعبد الله في البيت المقدس سراً وجهراً، وملكت بلاد الأردن وفلسطين غوراً ونجداً، وبراً وبحراً، وملئت إسلاماً وقد كانت ملئت كفراً، وتقاضى الخادم دين الدين الذي غلق رهنه دهراً، والحمد لله وشكراً، حمداً يجد للإسلام كل يوم نصراً، ويزيد وجوه أهله بشرى فتتوجه بشراً

والكتاب طويل ذكر فيه فصولاً عن الوقائع التي تقدمت فتح المقدس فاكتفينا منه بما أوردناه،
وللعماد قصيدة من قصائده الطوال ضمنها فتح القدس وفلسطين، ومدح السلطان صلاح الدين، اقتصرنا على ايراد طرف منها قال:
أطيب بأنفاس تطيب لكـم نـفـسـاً  وتعتاض من ذكراكم وحشي أنـسـا
وأسأل عنـكـم عـافـيات دوارس  غدت بلسان الحال ناطقة خـرسـا
معاهدكم ما بالهـا كـعـهـودكـم  وقد كررت من درس آثارها درسا؟
وقد كان في حدسي لكم كل طـارف  وما جئتم من هجركم خالف الحدسـا
أرى حدثان الدهر ينسـى حـديثـه  وأما حديث الغدر منكم فلا ينـسـى
تزول الجبال الـراسـيات وثـابـت  رسيس غرام في فؤادي لكم أرسـى
حسبت حبيبي قاس القـلـب وحـده  وقلب الذي يهوى بحمل الهوى أقسى 
ومنها: وإن نهاري صار لـيلاً لـبـعـدكـم  فما أبصرت عيني صباحاً ولا شمسـا
بكيت على مستـودعـات خـدوركـم  كما قد بكت قدماً على صخرها الخنسا 
فلا تحبسوا عني الجمـيل فـإنـنـي  جعلت على حبي لكم مهجتي حبـسـا
ومنها: رأيت صلاح الدين أفضل مـن غـدا  وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى 
وقيل لنا في الأرض سبـعة أبـحـر  ولسنا نرى إلا أناملـه الـخـمـسـا
سجيته الحسنى وشيمـتـه الـرضـا  وبطشته الكبرى وعزته القـعـسـا
فلا عدمت أيامنا مـنـه مـشـرفـاً  ينير بما يولي لـيالـينـا الـدمـسـا
جنودك أملاك السـمـاء وظـنـهـم  أعاديك جناً في المعـارك أو إنـسـا
سحبت على الأردن ردنا من القـنـا  ردينية ملـداً وخـطـية مـلـسـا
ونعم مجال الخيل حطين لـم تـكـن  معاركها للجرد ضرساً ولا دهـسـا
  غداة أسود الحرب معتقلـو الـقـنـا  أساود تبغي من نحور العدا نـهـسـا
أتوا شكس الأخلاق خشنـاً فـلـينـت  حدود الرفاق الخشن أخلاقها الشكسـا
طردتهم في الملتقى وعكـسـتـهـم  مجيداً بحكم العزم طردك والعكـسـا
فكيف مكست المشركـين رؤوسـهـم  ورأيك في الإحسان أن تطلق المكسـا
كسرتهم إذ صـح عـزمـك فـيهـم  ونكستهم من بعد أعلامهـم نـكـسـا
بواقعة رجت بهـا أرض جـيشـهـم  ومارت كما بست جبـالـهـم بـسـا
بطون ذئاب البر صارت قـبـورهـم  ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا
وحامت على نار المواضي فراشـهـم  لتطفا فزادت من خمودهم قـبـسـا
وقد خشعت أصوات أبطالهـا فـمـا  يعي السمع إلا من صليل الظبي همسا 
تقاد بدأمـاء الـدمـاء مـلـوكـهـم  أساري كسفن اليم نيطت بها القلـسـا
سبايا بلاد الـلـه مـمـلـوءة بـهـا  وقد عرضت نخساً وقد شريت بخسـا
يطاف بها الأسواق لا راغـب لـهـا  لكثرتها كم كثرة توجـب الـوكـسـا
شكا يبساً رأس البـرنـس الـذي بـه  فندى حسام حاسـم ذلـك الـيبـسـا
حسا دمه ماضي الـغـرار لـغـدره  وماكان لولا غـدره دمـه يحـسـى
ومنها: ومن قبل فتح القدس كنت مقـدسـاً  فلا عدمت أخلافك الطهر والقدسا
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها  وألبستها الدين الذي كشف اللبـسـا
ومنها: جرى بالذي تهوى القضاء وظاهرت  ملائكة الرحمن أجنادك الحمـسـا
وكم لبني أيوب عبـد كـعـنـتـرٍ  إن ذكروا بالبأس لم يذكروا عبسـا
 
ومن غزلياته قوله:
أفدي الذي خلبت قلبي لواحظـه  وخلفت لذعات الوجد في كبدي
صفات ناظره سقـم بـلا ألـم  سكر بلا قدح جرح بـلا قـود
على محياه من نار الصبا شعـل  وورد خديه من ماء الجمال ندى 

ومن حكمياته:
إقنع ولا تطمع فإن الغنى  كماله في عزة النفـس
فإنما ينقص بدر الـدجـا  لأخذه الضوء من الشمس 
وقال:
وما هذه الأيام إلا صـحـائف  يؤرخ فيها ثم يمحى ويمحـق
ولم أر في دهري كدائرة المنى  توسعها الآمال والعمر ضـيق
انتهى كلام ياقوت الحموي
***

وقال العماد الأصبهاني: 
قلت للـورد مـا لـشـوكـك يدمـي  كل ما قد سعرت مـنـه جـراحـى
قال لي: هـذه الـرياحـين جـنـدي  أنا سلطانهـا وشـوكـي سـلاحـي

وهذه مرثيته لصلاح الدين بعد موته سنة 589للهجرة:

شمل الهدى والملك عم شتاته :
شمل الهدى والملك عم شتاته  والدهر ساء وأقلعت حسناته
أين الذي مذ لم يزل مخشية  مرجوة رهباته وهباته
أين الذي كانت له طاعاتنا  مبذولة ولربه طاعاته
بالله أين الناصر الملك الذي  لله خالصة صفت نياته
أين الذي ما زال سلطانا لنا  يرجى نداه وتتقى سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله  وسمت على الفضلاء تشريفاته
أين الذي عنت الفرنج لبأسه  ذلا ومنها أدركت ثاراته
أغلال أعناق العدا أسيافه  أطواق أجياد الورى مناته
لم يجد تدبير الطبيب وكم وكم  أجدت لطب الدهر تدبيراته
من في الجهاد صفاحه ما أغمدت  بالنصر حتى أغمدت صفحاته
من في صدور الكفر صدر قناته  حتى توارت بالصياح قناته
لذ المتاعب في الجهاد ولم تكن  مذ عاش قط لذاته لذاته
مسعودة غدواته محمودة  روحاته ميمونة ضحواته
في نصرة الإسلام يسهر دائما  ليطول في روض الجنان سنانه
لا تحسبوه مات شخص واحد  فممات كل العالمين مماته
ملك عن الإسلام كان محاميا  أبدا إذا ما أسلمته حماته
قد أظلمت مذ غاب عنا دوره  لما خلت من بدره داراته
دفن السماح فليس تنشر بعدما  أودى إلى يوم النشور رفاته
الدين بعد أبي المظفر يوسف  أقوت قراه وأقفرت ساحاته
جبل تضعضع من تضعضع  ركنه أركاننا وتهدنا هداته
ما كنت أعلم أن طودا شامخا  يهوي ولا تهوي بنا مهواته
ما كنت أعلم أن بحرا طاميا  فينا يطم وتنتهي زخراته
بحر خلا من وارديه ولم تزل  محفوفة بوفوده حافاته
من لليتامى والأرامل راحم  متعطف مفضوضة صدقاته
لو كان في عصر النبي لأنزلت  في ذكره من ذكره آياته
فعلى صلاح الدين يوسف دائما  رضوان رب العرش بل صلواته
لضريحه سقيا السحاب فإن يغب  تحضر لرحمة ربه سقيانه
وكعادة البيت المقدس يحزن البيت الحرام عليه بل عرفاته
من للثغور وقد عداها حفظه  من للجهاد ولم تعد عاداته
بكت الصوارم والصواهل إذ خلت  من سلها وركوبها غزواته
وبسيفه صدأ لحزن مصابه  إذ ليس يشفى بعده صدياته
يا وحشتا للبيض في أغمادها  لا تنتضيها للوغى عزماته
يا وحشة الإسلام يوم تمكنت  في كل قلب مؤمن روعاته
يا حسرتا من بأس راحته الذي  يقضى الزمان وما انقضت حسراته
ملأت مهابته البلاد فإنه  أسد وإن بلاده غاباته
ما كان أسرع عصره لما انقضى  فكأنما سنواته ساعاته
لم أنس يوم السبت وهو لما به   يبدي السبات وقد بدت غشياته
والبشر منه تبلجت أنواره  والوجه منه تلألأت سبحاته
ويقول لله المهيمن حكمة في مرضة حصلت بها مرضاته
وقف الملوك على انتظار ركوبه  لهم ففيم تأخرت ركباته
كانوا وقوفا أمس تحت ركابه   واليوم هم حول السرير مشاته
وممالك الآفاق ساعية له  فمتى تجيء يفتحهن سعاته
هذي مناشير الممالك تقتضي   توقيعه فيها فأين دواته
قد كان وعدك في الربيع بجمعها  هذا الربيع وقد دنا ميقاته
والجند في الديوان جدد عرضه  وإذا أمرت تجددت نفقاته
والقدس طامحة إليك عيونه  عجل فقد طمحت إليه عداته
والغرب منتظر طلوعك نحوه   حتى تفيء إلى هداك بغاته
والشرق يرجو غرب عزمك ماضيا  في ملكه حتى تطيع عصاته
مغرى بإسداء الجميل كأنما  فرضت عليه كالصلاة صلاته
هل للملوك مضاؤه في موقف   شدت على أعدائه شداته
وإذا الملوك سعوا وقصر سعيهم   رجحت وقد نجحت به مسعاته
كم جاءه التوفيق في وقعاته   من كان بالتوفيق توقيعاته
يا راعيا للدين حين تمكنت   منه الذئاب وأسلمته رعاته
ما كان ضرك لو أقمت مراعيا   دينا تولى مذ رحلت ولاته
أضجرت منا أم أنفت فلم تكن   ممن تصاب لشدة ضجراته
أرضيت تحت الأرض يا من لم يزل   فوق السماء علية درجاته
فارقت ملكا غير باق متعبا   ووصلت ملكا باقيا راحاته
أعزز على عيني برؤية بهجة الدنيا ووجهك لا ترى بهجاته
أبني صلاح الدين إن أباكم   ما زال يأبى ما الكرام أباته
لا تقتدوا إلا بسنة فضله   لتطيب في مهد النعيم سناته
وردوا موارد عدله وسماحه   لترد عن نهج الشمات شماته
ولئن هوى جبل لقد بنيت لنا   ببنيه من هضباته ذرواته
وبفضل أفضله وعز عزيره   وظهور ظاهره لنا سرواته
الأفضل الملك الذي ظهرت على الدنيا بزهر جلاله جلواته
والدين بالملك العزيز عماده   عثمان حالية لنا حالاته
والملك غازي الظاهر العالي الذي   صحت لإظهار العلى مغزاته
ولنا بسيف الدين أظهر نصره   بالعادل الملك المطهر ذاته
****
خريدة القصر وجريدة العصر
تأليف : العماد الأصبهاني

موضوع الكتاب : الشعر و الشعراء : تراجم الشعراء
كتاب ضخم، تقع مطبوعته في (21) مجلداً، ترجم فيه العماد لشعراء القرنين الخامس والسادس الهجريين. وعداده في ذيول (يتيمة الدهر) للثعالبي جمع فيه كما يقول، طبقته وطبقة آبائه وأعمامه (السالف الماضي والحاضر النامي). ولم يقتصر فيه على قطر من الأقطار. وكان باعثه على تأليفه: جمع ما مُدِحَ به عمُّه أبو النصر أحمد بن حامد الأصفهاني، وتخليد مادحيه من الشعراء، إلا أنه تجاوز هذا الباعث ليشمل عمله تراجم شعراء القرنين الخامس والسادس الهجريين.
طبعت أقسام من الكتاب، في فترات متباعدة، من جهات مختلفة، حيث اعتنى كل من المصريين والشاميين والعراقيين والإيرانيين بإخراج القسم المخصص لشعراء بلدانهم من كتاب الخريدة، فنشر القسم المصري منه سنة 1951م بعناية أحمد أمين ود. شوقي ضيف ود. إحسان عباس، والقسم العراقي سنة 1955م بعناية محمد بهجت الأثري، عدا الجزء المتعلق بشعراء نجد، الذي صدر مؤخراً في جزء مستقل في بغداد.
 والقسم الشامي والحجازي واليمني والعجمي بتحقيق الأستاذ شكري فيصل في أربعة أجزاء سنة 1955م فما بعد،
والقسم المغربي (تونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، وصقلية والأندلس) منذ سنة 1967م بعناية المرزوقي والعروسي والجيلاتي.
 وآخر ما نشر منه قسم شعراء فارس في ثلاث مجلدات، في طهران عام 2000م ولكتاب الخريدة نسخ في عدة مكتبات في العالم، إلا أن واحدة منها لم تخل من النقص، وتعتبر نسخة المكتبة الوطنية بباريس أكمل هذه النسخ، ويتصدر القسم الرابع تعريف به، باللغة اللاتينية، كتب سنة 1732م بقلم (جوزيف أسكاري) وعلى النسخة تملكات، أقدمها: سنة 976هـ
وللخريدة ذيل مطبوع، من تأليف العماد أيضاً سماه (السيل والذيل) قال ابن خلكان، في ترجمة يحيى بن نزار: (فلما كان في أوائل سنة 672هـ وقفت بالقاهرة المحروسة على مجلد من كتاب (السيل والذيل) ...إلخ).

جزء من بداية كتاب خريدة القصر وجريدة العصر،  للعماد الأصبهاني
يتضمن هذا الجزء المواضيع التالية

فضلاء بغداد
خلفاء وأمراء بني العباس
باب في ذكر محاسن الوزراء والكتاب
جماعة أفاضل أماثل من بيت رئيس الرؤساء
بنو المطلب
باب في محاسن الشعراء
قسم شعراء العراق
جمال المُلك
ابن الهّبارية العباسي الشاعر
الأمير مجد العرب مُصطفى الدولة
المؤيّد الآلوسي
ولده محمد بن المؤيّد
الحسين بن أبي الفوارس
أبو عليّ الفرج بن محمد بن الأخوة
مقدار بن بختيار أبو الجوائز المطاميري
الأديب أبو طاهر محمد بن حيدر
ابن الخيّاط البغدادي المعروف بالفاختة
يحيى بن صُعلوك
الحسن بن أحمد بن حكينا
المهذّب بن شاهين
أبو عبد الله محمّد بن جارية القصّار
الرّبيب أبو المحاسن بن البوشنجيّ
أبو علي بن الرئيس خليفة الدّوَوي
أبو السّمح سعيد بن سمرة الكاتب
أبو البقاء بن لُوَيزة الخيّاط
أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر
المبارك بن سلامة المخلطيّ البغدادي
الشّروطي البغدادي
أخوه أبو المعالي ابن مسلم الشّروطي
فخر الدّين أبو شُجاع بن الدّهان
الأمير أبو شُجاع بنُ الطّوابيقي
غزال
فارس المعروف بطَلّق
الحسن بن عبد الواحد الشهرباني
يوسف بن الدُرِّ البغدادي
أبو محمد محمد بن الحسين بن هِلال الدّقاق
ابن قزمّي البغدادي
أبو الفتح بنُ قران
أحمد بن محمد بن شُميعة
ابن بكري الكاتب
باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان سواد بغداد

مقدمة العماد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مودع أرواح المعاني أشباح الألفاظ، ومطلع ذكاء الذكآء من أفلاك الإدراك للقرائح الأيقاظ، ومظهر أسرار الحكم لأحداق الضمائر الناظرة، ومنور أزهار الكلم في حدائق الخواطر الناضرة، وحافظ نظام البلاغة في كل عصر، وحاصر أقسام البراعة في نوعي نظم ونثر، الذي أفاض على الأفاضل حلل الكرامة، وخصهم لخصائصهم بالفخار والفخامة، وأرسل محمداً صلوات الله عليه بالفصاحة المعجزة في البيان، والحكمة الواضحة البرهان، وأنزل عليه الذكر العربي المبين، وجعله لحمل أمانة وحيه القوي الأمين، وأيده بذوي الفضائل الغر، والفواضل الغزر، من آله وصحابته، وعين أهل العلم لوراثته، وأصفى بشرعه مشرع أمته، صلى الله عليه وآله وصحبه وعترته.
أما بعد، فإنني لما رأيت الفضل في عصرنا هذا، وإن ضاع عرفه، قد ضاع عرفه كما أنه، وإن زان ضعفه، فقد زاد ضعفه، لفساد أمره، وكساد سعره، وهبوط نجمه، وسقوط رسمه، وحط حظه، وقلة عناية هله بحفظه، آثرت أن أثر من مآثر أهل العصر ما يخلد آثارهم، ويجدد منارهم، فإنني ألفيت أبكار أفكارهم قد عنست، وآرام شواردهم في خميلة الخمول كنست، وعرائس نفائسهم عند الأكفاء ما عرست، وبعد الوحشة ما أنست، والبواعث قلت بل عدمت، والحوادث جلت بل عظمت، وكنت منذ شمت بارقة الأهب، وركبت في استفادة العلم صهوة الطلب، ذاك وصبا الصبا في ريعان الهبوب لها مسرى ومسير، وشبا الشباب الطري طرير، وأنا أحب أن أجمع محاسن من محاسناهم الدهر المسيء، وأظهر مزاين من غفل عن التحلي بمزاياهم الزمان البذئ، وكنت قد طالعت كتابي يتيمة الدهر، ودمية القصر للثعالبي والباخرزي في محاسن أهل عصريهما الشعراء، وقد بلغا الجهد في إظهار اجتهاد البلغاء، وما وجدت بعد ذلك من عني بذلك كعنايتهما، ولا من حدث نفسه أنه يبلغ إلى غايتهما، فصنفت هذا الكتاب وألفته، ورقمت هذا الوشي وفوفته، وسميته خريدة القصر وجريدة العصر؛ لأنها حسناء ذات حلي وحلل، غانية تغبطها على الحسن أقمار الكلل. فهذا الكتاب كالروض الأنف يجمع أنواع الزهر، وكالبحر تضمن على نواصع الدرر؛ وكالدهر يأتي بعجائب العبر، يشتمل على فنون وعيون، وأبكار للمعاني وعون، وأصناف فوائد، وأصداف فرائد، وضروب ضرب، وضروع أرب، وظروف ظرف، وحروف لطف، فكم فيه من يتيمة لتاج قدره، وكريمة في خدره، وديمة لودقه، وهلال لأفقه؛ ويتضمن من شريف الكلام وحره، ودريه ودره، ولطيف القول وبديعه، وغريبه وصنيعه، ما إذا اجتليت أنواره، واجتنيت أثماره، ونظرت إلى استقامة سمته، وسلامة نحته، وجدته محمي الحريم بالصون، مفري الأديم علي الحسن، منيع الجناب للعاكف، حلو الجني للقاطف، لا يطلب إذناً على أذن، ولا يلتمس رهناً من ذهن، ولا يحتجب عنه قلب، ولا يحتجر معه لب، بل يعانق القلوب بقبوله معانقة، ويعالق الأرواح براحة معالقة.
وقد ذكرت أهل عصري، وأهل عصر آبائي وأعمامي، فالكتاب مشتمل على العصرين: السالف الماضي، والحاضر النامي. وأكثر ما أوردته شعر من أروي عن واحد، عنه، إن لم يكن أدركته وسمعته منه، ولم أقتصر على المنتقى المنتقد، والمثنخل المنتخب، بل ذكرت لكل شاعر ما وقع إلي من شعره، وأثبته: إما لمعنى غريب، أو لفظ مستحسن، أو أسلوب رائق، أو حديث بحال من الأحوال لائق، وطلبت الاستكثار من الفوائد، وضممت الشذور إلى الفرائد.
والذي بعثني أولاً على جمع هذا الكتاب أنني وجدت المعاصرين لعمي الصدر الشهيد عزيز الدين أبي نصر أحمد بن حامد من الشعراء ما فيهم إلا من أم قصده، وطلب ووفد عليه بمدحه، واسترفده من منحه، وفاز عنده بنجحه، وأدرك في ليل الأمل من الفوز ضوء صبحه، وحمل إليه بضائع فضله فحصل من إفضاله بربحه، وكلهم ممتدحه، ومستميحه ومستمنحه، فأحببت أن أحيي ذكرهم، وأقابل بمجازاة شكري شكرهم. وكانت المدائح المجموعة في عمي العزيز مجلدات، غير أن العدو لما نكبه، نهبها، وذهب بها وأذهبها، لكنه لم يسلب الأصل والمحتد، ولم ينهب المجد والسؤدد. وقد كتبت منها بعض ما حصلته، ومهدت به ذكره على قاعدة الخلود وأثلته.
وقد قسمت هذا الكتاب أقساماً.

القسم الأول
فضلاء بغداد
وما يجري معها من البلاد
خلفاء وأمراء بني العباس
الإمام المستضيء بالله أمير المؤمنين
  
وابتدأت القسم الأول من العراق مزكي عرقي، ومنشأ حقي، وموطن أهلي، ومجمع شملي. وهو الإقليم الأوسط، والأقنوم الأحوط، وأهله الراسخون علوماً، الباذخون حلوماً. وقدمت مدينة السلام؛ لأنها حوزة الإسلام، وبيضة مملكة الإمام، وتبركت بذكر من أدركته من الخلفاء، ومن أدركه منهم والدي وأعمامي، الذين يشتمل هذا الكتاب على محاسن أيامهم، ومزاين أجوادهم وكرامهم، وذكرت من شعر كل واحد منهم ما سمعته، تفضيلاً لكتابي هذا على الكتب المصنفة في فنها، ليربي بحسنه على حسنها، فهو- بإشراق أضواء ذكر الإمام المستضيئ بأمر الله أمير المؤمنين أبي محمد الحسن ابن الإمام المستنجد- مضيء المطالع مشرقها، صافي الشرائع مغدقها.
والإمام المستضيئ واحد العصر نبلاً، وثاني البحر فضلاً، وثالث العمرين عدلاً، بل ثالث القمرين أنواراً، وثاني القدر أثراً وإيثاراً، وواحد الزمان قدراً ومقداراً. وهو الثالث والثلاثون من خلفاء بني العباس، ذو الفضل والإفضال والنائل والسطوة والباس، ترجى موهبته، وتخشى هيبته، وتدعى هبته، وينادي نداه فيجبر ويجيب، ويجتدي جداه فيصوب ويصيب. أما السماح فهو بدر سمائه الزاهر، وأما الكرم فهو بحر عطائه الزاخر، وأما الفضل فهو جامع شتاته، ورافع راياته، وواضع شرعه، وشارع وضعه، ومشرق آفاقه، ومنفق أسواقه، قس الفصاحة، وقيس الحصافة، وصديق السماحة، وفاروق الحماسة، وعثمان الحلم، وعلي العلم. حلل الأيام معلمة منه بطراز العدل، وحلل الأنام مكرمة بإعزاز الفضل. وفي عصره المذهب تسنت الفتوح الأبكار، وجرت على الإيثار الآثار، واستخلصت مصر من الأدعياء، واليمن من الأعداء، وملك بنو أيوب، ومكن الله ليوسفهم في الأرض، وعادت مصر آهلة بالمقيمين وظائف السنة والفرض.
ولما بويع له بالخلافة في تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة، كنت بالموصل، فعملت هذه الأبيات المهموزة، ونفذتها إليه على يد الفقيه شرف الدين بن أبي عصرون، فعاد إلي بخلع منه سنية، ودنانير أميرية، وصيرها الإمام رسماً في كل سنة، والأبيات هي:
 قد أضـاء الـزمـان بـالــمـــســـتـــضـــيئ  وارث الـبُــرْد وابـــن عـــم الـــنّـــبـــيء
جاءَ بـالـــحـــقّ والـــشـــريعة والـــعـــد  لِ فـيا مـرحـبـاً بـــهـــذا الـــمـــجـــيء
رَتَـع الـعـالـمـون مـن عـــدلـــه الـــشـــا  مل فـي الـمـرتـع الـهــنـــيء الـــمـــريء
ورعـوا مــنـــه فـــي مَـــرادٍ خـــصـــيبٍ  لا وخــــــيم ولا وبـــــــيل وبـــــــيء
رقـدوا بــعـــد طـــول خـــوف مـــقـــضّ  في ذَرا الأمـن والـــمـــهـــاد الـــوطـــيء
فهـــنـــيئاً لأهـــل بـــغـــدادَ فــــــازوا  بعـد بـــؤسٍ بـــكـــلّ عـــيش هـــنـــيء
سأوافـــي فِـــنـــاءَهُ عــــن قـــــــريب  مسـرعـاً كـــي أفـــوز غـــيرَ بـــطـــيء
وأحـــلّـــي عـــيشـــي بـــجـــدّ جـــديد  وأهـنّـي فـضـــلـــي بـــحـــظّ طـــريء
وتُـــرينـــي الأيام نـــقــــداً مـــــــن الآ  مال مـا كـان قـبـلــه فـــي الـــنـــســـيء
وأمـانـيّ ســـوف يظـــهـــر مـــنـــهـــا  عنـــد قـــصـــدي ذَراه كـــلُّ خـــبـــيء
عاد حـظّــي مـــن الـــنـــحـــوس بـــريئاً  وغـدا الـسـعـــد مـــنـــه غـــير بـــريء
ولـقـيتُ الـدّهـرَ الــعـــبـــوسَ وقـــد عـــا  دَ بـــوجـــهٍ طَـــلْـــقٍ إلـــيِّ وَضــــيء
ومُضيء إن كان في الزمن المُظلم فالعَود في الزمان المُضيء 

ثم مدحته بعد ذلك بقصائد. ولما خُطِب له بمصرَ سنة سبع وستين في أيام الوزير عضد الدين، كتبت إليه قصيدة، أولها:
قد خطبنا للمستضيئ بمصـرٍ  وارثِ المصطفى إمام العَصْرِ 
وخذَلنا لنصره العَضُدَ الـعـا  ضِدَ والقاصر الذي بالقَصْـر
قصدت بالعضد العاضد المجانسة، ونصرة وزير الخليفة كنصرته.
وأشعنا بها شِعار بنـي الـع  باس فاستبشرتْ وجوهُ النصر 
ووضَعْنا للمستضيئ بأمـر ال  له عن أوليائه كُـلَّ إصْـرِ

ومنها:
 وجرى من نَداه دِجْلَةُ بغـدا  دَ بشطر ونيلُ مصر بشطرِ 
وقد اهتز للهدى كلُّ عِطفٍ  مثلما افترَّ بالمنى كلّ ثَغْرِ
فبَجدْواهُ زائلٌ كـلّ فَـقـرٍ  وبنُعماه آهِلٌ كـلِّ قَـفْـرِ
ونداهُ الهدى أزال من الأس  ماع في كلّ خطّةٍ كلّ وَقْرِ
نشكرُ اللهَ إذْ أتمّ لنـا الـنـص  رَ ونرجو مَزيدَ أهلِ الشـكـر
ونشرنا أعلاَمنا السودَ فـهـراً  للعدى الزرق بالمنايا الحمـر
خلفاء الهدى سَراة بنـي الـع  باس والطيّبونَ أهل الطـهـرِ
كشموس الضحى كمثل بدور ال  تمِّ كالسحب كالنجوم الـزهـر
وتمام الحبور ما تمّ مـن خـط  بة خير الخلائف ابن الحَـبْـرِ
مَهْبطُ الوحي بيته منزل الـذكْ  ر بشَفْعٍ من المثانـي ووِتْـر

ومنها:
ليس مُثري الرجال مَنْ ملكَ الما  ل ولكنّما أخو اللـبّ مُـثْـر
ولهذا لم ينتفع صاحب القـص  ر وقد شارف الدُّثُورَ بـدَثـرِ

ومنها في مدح
 
لسوي نظم مدحه أهجر الـنـظْ  مِّ فما مَدحُ غيره غير هُـجْـر
وأرتنا لـه قـلائدَ مـن مـس  نٍ وبِرّ ليست بجِـيدٍ ونَـحْـر
وبإِنعـامـه تَـزايد شـكـري  وبتشريفه تَضاعف فـخـري
كم ثَـراءٍ وقـوةٍ وانـشـراحٍ  منه في راحتي وقلبي وصدري 
وعليِّ النُذُورُ في مثـل ذا الـيو  مِ وهذا يوم الوفـاء بـنَـذْري
واستهلّت بوارق الأنعم الـغـرِّ  به في حَـيا الأيادي الـغُـزْر
نَعشَ الحقَّ بعدَ طـول عـثـارٍ  جَبرَ الحقّ بعدَ وَهْنٍ وكـسـر
دام نصرُ الهدى بملك بني الـع  بَّاس حتى يكونَ يوم الحـشـر
 
وهذه قصيدة طويلة جداً، ولكنني اقتصرت منها على هذا القدر.
ومن قصائدي في مدحه:
هل عائدٌ زمنُ الوصالِ المنْقَضِي  أم عائدٌ لي في الصبابة ممرضي
لا أشتكـي إلاّ الـغـرام فـإِنّـهُ  بَلوى عليِّ من السماء بها قُضي
يا لاح حالي في الهَوى مشهورةٌ  حاوَلتَ تسليَتي وأنت مُحرّضـي
خَفِّضْ عَليكَ فما الملامُ بنـاجـعٍ  فيمن يقولُ لكـلِّ لاحٍ خَـفّـض
كان التعرُّضُ لي بِنصحك نافعي  لو كان يمكن للسُّلوّ تَعـرُّضـي
عَرَّضت وجدي للسلوّ ومُتْـعِـبٌ  كتمانُ سرٍّ للوُشـاةِ مُـعـرِّض
أَنفقتُ ذُخر الصبر من كلفي فهل  من واهبٍ للصبر أو مِن مُقرِض 
أيبلُّ مُضنىً قلـبُـه مُـتَـهـدِّفٌ  لسهام رامٍ للّواحـظِ مُـنْـبِـضِ
شَغَفي بأغـيَدَ مُـقْـبـلٍ بـوداده  لمحبّه ويَصدّ صَدِّ المـعـرِض
شكوايَ من دَلٍّ يزيدُ مُـحـبّـبٍ  وضَنايَ من صدٍّ يدوم مُبـغِّـض
يا حبّذا ماءُ الـعُـذَيْبِ وحـبّـذا  بنِطافه الغُزرِ العِذاب تمضمضي
لَهفي على زمن الشباب فإنِّـنـي  بسوي التأسّف عنه لم أتعـوض
نُقِضَتْ عُهودُ الغانـياتِ وإنـهـا  لولا انقضاءُ شبيبتي لم تَنـقـض
كان الصِبا أضفى الثياب وإنـمـا  ذهبت نضارة عيشتي لمّا نُضـي
يا حسنَ أَيام الصِّبـا وكـأنـهـا  أيامُ مولانا الإِمام المسـتَـضِـي
وهذه القصيدة أيضاً طويلة.




لتحميل كتاب خريدة القصر اضغط هنا
Launch in external player

thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
17456009
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة