علوم ومعارف، حياة السيرافي وعلومه

Science and knowledge

علوم ومعارف: حياة السيرافي وعلومه
Science and knowledge, Dr. Mahmoud EL-Saied EL- Doghim,
أعدَّ هذا البرنامج الإذاعي اليومي الصباحي وقدّمه: د. محمود السيد الدغيم حينما كان يعمل في محطة ام بي سي اف ام، وكان بثُّ هذا البرنامج بعد صلاة الصبح مباشرة بتوقيت مكة المكرمة، والهدف منه الفصل بين الأذان، وبقية البرامج، وقدَّمَ من هذا البرنامج أكثر من مئتي حلقة بمعدل حلقة واحدة يومياً، وفي هذه الحلقة معلومات عن: سيرة شيخ الشيخ السيرافي، وعلومه، وكان تاريخ بث هاتين الحلقتين في يوم الاثنين 1/1/ و يوم الأحد 2/1/ 2001م
نأمل لكم وقتاً ممتعاً


إن أقدم كتاب ألف في "ضرورة الشعر" هو كتاب أبي العباس المبرد (المتوفى سنة 285هـ)، وهو مفقود، غير أنه كان فيما يبدو أمام أبي سعيد السيرافي، وهو يشرح كتاب سيبويه، فنقل منه الكثير، واستخراج من بحاره الكنوز والدرر.
وهنا تبدو أهمية هذا الباب في كتاب السيرافي، فقد تعود السيرافي أن يلتصق كثيراً بعبارة سيبويه وهو يشرح كتابه، غير أنه عندما وصل إلى "باب ما يحتمل الشعر" في كتاب سيبويه، لم يعجبه تقصير سيبويه في شرح ضرورات الشعر، فأنشأ كتاباً كاملاً في هذا الموضوع، وتحرر تماماً من القضايا التي طرحها سيبويه في هذا الباب، وراح يتعقب الضرورات الشعرية بأنواعها المختلفة، ويفيض في شرحها ومناقشة أحكامها والاستشهاد عليها.
بل إنه نسي تماماً تعلقه بسيبويه، فقسم كتاب "ضرورة الشعر" إلى عدة أبواب، في الزيادة، والحذف، والبدل، والتقديم والتأخير، وتغيير الإعراب عن وجهه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث. غير أنه عاد في خاتمة هذا الباب الأخير، إلى بعض عبارات سيبويه يشرحها ويعلق عليها، ويفسر الأشعار التي ذكرها سيبويه في هذا الموضوع. ويمتاز كتاب السيرافي في "ضرورة الشعر" بتتبع الروايات المختلفة لشواهد الضرورات، وذكر آراء العلماء في فهمها وتخريجها.
لكل هذا اعتنى الدكتور "رمضان عبد التواب" بتحقيق مادة هذا الكتاب مهتماً في البداية بمقابلة نصه على مخطوطات الشرح المتعددة وبعد هذا عمد إلى إخراج نصوصه وشواهده من الشعر والنثر، كما واهتم بضبط ما يشكل منها على القارئ وبطبع الكثير من الفهارس الفنية النافعة التي تسهل مطالعته على القارئ.


أخبار النحويين البصريين للسيرافي
هذا كتاب يتحدث فيه الإمام أبي سعيد الحسن السيرافي عن وضع النحو وأسباب وضعه، ويذكر الروايات التي تتناقل فيمن استبد بشرف استنباطه، ثم يفرغ من ذلك ويتحدث عن أعلام البصرة في النحو، وطبقاتهم خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين في أسلوب جميل، ونظام بديع، وتفصيل مناسب، وحرض على أسلوب الرواية، وأمانة النقل والأخذ والترجمة.


فوائت كتاب سيبويه من أبنية كلام العرب


كتاب سيبويه، كما هو معروف صنعه سيبويه في شبابه، وفي صدر الحياة الفكرية في القرن الثاني للهجرة. وقد عدّ صاعد بن أحمد الجياني الكتاب، أحد ثلاثة كتب، قال عنها: "لا أعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديمها وحديها، فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب... الثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه الم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له". وقال الحافظ: "لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع ما كتب الناس عليه عيال".
لذا فلا غرابة أن يثير الكتاب اهتمام معاصريه، والذين جاءوا في العصور التي تلت عصره، فلقد بلغ الكتاب القيمة في ما وصل إليه الدراسات النحوية في أواخر القرن الثاني الهجري بعد أن صنع فيه مؤلفه أعظم ما يصنع عالم لموضوعه، إذ آتاه حقه في التقصي والاستيعاب، ومن الدرس والنقد، وجهد في تحرير مسائله وترتيب موضوعاته حتى استحق كتابه في النحو والصرف أن يكون الكتاب، واستحق المؤلف به أن يكون في النحويين الإمام. فأقبل الباحثون من بعده على دراسته وشرحه، وشرح شواهده، والتعقيب، الاستدراك عليه، منتصرين له، ومدافعين عن صاحبه.
ويعدّ ابو سعيد السيرافي، إمام الأئمة، وشيخ الشيوخ واحداً من هؤلاء المهتمين بشرح كتاب سيبويه، فجاء شرحه خير مفصح عن شخصية السيرافي العلمية وثقافته اللغوية، وقدرته على معرفة معاني المفردات، وتفسير الأبنية الغريبة وضبطها وبيان مفردات جموعها واستشهاده للمعاني التي يريد توضيحها، وكثرة نقوله عن أئمة اللغة والنحو، واجتهاده الذاتي الذي تجلى في إسرافه في التعليلات النحوية التي تدور حول حكمة اللغة في تركيباتها، وعلاقة مفرداتها، وعلامات الإعراب والبناء وكان صدى لثقافته القرآنية، والفقهية، والشعرية، ومن علم الأنساب، والمنطق، والكلام.
والقارئ لهذا الكتاب يجد أنه يقع في قسمين أولهما: الدراسة، وهي تتضمن ثلاثة مباحث، الأول: ترجمة السيرافي: اسمه وولادته، نشأته وحياتهن خلائفه، وشيوخه، ثقافته، تلاميذه، آثاره وفاته. والثاني: بين يدي النص دس فيه المحقق مادة الكتاب، ومنهج السيرافي في هذا الباب، بين السيرافي وابن جني في فوائت الكتاب من الأبنية، والثالث: منهج السيرافي (تقويم ونقد) في حين خصص القسم الثاني لتحقيق النص تحقيقاً علمياً تجلى فيه جهد المحقق في مراجعة الأبنية الصرفية التي جاءت فيه، وتوثيقها من كتاب سيبويه، فضلاً عن اهتمامه بالهوامش التي أغناها بالمقارنات وبالأوجه التي رويت بها هذه الأبنية في الكتب الأخرى.



للموضوع علاقة بموضوع مناظرة السيرافي والفيلسوف متى : اضغط هنا
وموضوع زيادة الألف والنون والمد والقصر : اضغط هنا

فرحة الأديب 
المؤلف  الغندجاني
نبذة عن الكتاب: هو أشهر ردود  الغندجاني على أئمة اللغة والأدب. وهو حلقة من سلسلة نقود، وجهها إلى ابن الأعرابي، وأبي علي الفارسي، وأبي عبد الله النمري. وقد خص  السيرافي المتوفى سنة 385هـ بكتابين منها، الأول: (قيد الأوابد) رد به على كتاب السيرافي (شرح أبيات إصلاح المنطق) والثاني: فرحة الأديب، رد به على السيرافي في كتابه (شرح أبيات سيبويه) تناول فيه كتاب السيرافي بالنقد في (134) فقرة، من أصل (727) فقرة اشتمل عليها كتاب السيرافي

رابط القراءة   : اضغط هنا  
رابط التحميل  : اضغط هنا  

الكتــــــــــاب 
المؤلف  سيبويه
نبذه عن الكاتب: عمرو بن عثمان بن قنبر ألحارثي الولاء, أبو بشر الملقب سيبوبه, من مدينة البيضاء في الأحواز نزل البصرة ولزم الخليل بن احمد الفراهيدي ووضع كتابا في النحو سمي (الكتاب) ثم عاد إلى الأحواز وتوفي فيها
-------------
نبذة عن الكتاب :
جاء الكتابُ أبوابًا في أربعة أجزاء، بدأه المؤلف بباب في علم الكلم من العربية، واختتمه بباب في الجر، وقد اشتمل الكتاب على ألف وخمسين بيتًا من الشعر. وفيه قال محمد بن يزيد‏:‏ ‏"لم يُعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه؛ وذلك أن الكتب المصنّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج مَنْ فَهِمَه إلى غيره ‏"‏‏

رابط التحميل:  اضغط هنا




Launch in external player

إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

معجم الأدباء  ياقوت الحموي

 
الحسن بن عبد الله المرزباني السيرافي


أبو سعيد النحوي القاضي، وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس، رأيته أنا وبه أثر عمارة قديمة، وجامع حسن، إلا أنه الآن الغالب عليه الخراب، وقد كان ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد، ومات - رحمه الله - يوم الاثنين ثاني رجب، سنة ثمان وستين وثلاثمائة، في خلافة الطائع ودفن في مقابر الخيزران. وكان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد، فسماه أبو سعيد عبد الله، وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه والفرائض. وكان قد قرأ على أبي بكر بن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر بن دريد اللغة، ودرسا جميعاً عليه النحو، وقرأ على أبي بكر بن السراج، وأبي بكر المبرمان النحو، وقرأ أحدهما عليه القرآن، ودرس الآخر عليه الحساب.
قال الخطيب: وكان - رحمه الله - زاهداً ورعاً، لم يأخذ على الحكم أجراً، إنما كان يأكل من كتب يمينه، فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس، حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم، تكون بدق رمئونته، ثم يخرج إلى مجلسه. وصنف كتباً منها: شرح كتاب سيبويه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب شرح سيبويه ويجتهدون في تحصيله. فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلف، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نرد عليه، ونعرفه خطأه فيه.
قال أبو حيان: فحصلوه واستفادوا منه، ولم يرد عليه أحد منهم أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه، وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلو عليه الرماني، فحكى ابن جني عن أبي علي: أن أبا سعيد قرأ على اب السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه. فقال لي: يجب على الإنسان أن يقدم ما هو أهم. وهو علم الوقت من اللغة والشعر، والسماع من الشيوخ، فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني يهجو أبا سعيد السيرافي: لست صدراً ولا قرأت على صد  ر ولا علمك البكـي بـكـاف
لعن الله كل شـعـر ونـحـو  وعروض يجيء من سـيراف
وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال:  
قال لي أبو أحمد: ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين، ومضى إلى عمان فتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة. قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان. قال: كان فقيهاً على مذهب العراقيين، وورد إلى بغداد، فخلف أبا محمد بن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم استخلفه على الجانبي. ومولده قبل التسعين ومائتين. وله من الكتب: كتاب شرح سيبويه، ألفات القطع والوصل، كتاب أخبار النحويين البصريين، كتاب شرح مقصورة ابن دريد، كتاب الإقناع في النحو لم يتم، فتممه ابنه يوسف، وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل بالإقناع، يريد أه سهله حتى لا يحتاج إلى مفسر، كتاب شواهد كتاب سيبويه، كتاب الوقف والابتداء، كتاب صنعة الشعر والبلاغة، كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه، كتاب جزيرة العرب.
قرأت بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ عمرو بن بحر، وقد ذكر جماعة من الأئمة، كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه، واللغة والشعر، والعروض والقوافي، والقرآن والفرائض، والحديث والكلام، والحساب والهندسة. أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة، فما وجد له خطأ، ولا عثر منه على زلة. وقضى ببغداد، وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني، فما جاراه فيه أحد، ولا سبقه إلى تمامه إنسان. هذا مع الثقة والديانة، والأمانة والرواية. صام أربعين سنة، وأكثر الدهل كله.
قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلباً للعلم، وابتغاء مشاهدة العلماء، فكنت إلى أن دخلت بغداد وتلقيت أبا سعيد، وقرأت عليه كتاب سيبويه نادماً سادماً في اغترابي عن أهلي ووطني، من غير جدوى في علم أو حظ من الدنيا، فلما سعدت برؤية هذا، علمت أن سعيي قرن بسعدي، وغربتي اتصلت ببغيتي، وأن عنائي لم يذهب هدراً، وأن رجائي لم ينقطع يأساً. قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ: قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في كتاب ما يلحن فيه العامة لأبي حاتم: هو الشمع مفتوح الشين والميم. فسألناه عما يحكى عن أبي بكر بن دريد أنه قال: شمع بكسر الشين. فقال: لا يعاج عليه. قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد؟ فقال: نعم هو عنه بخطي في كتاب الجمهرة.
قال: وكان أبو الفتح بن النحوي، وأبو الحس الدريدي سألاني عن ذلك، فاستعفيت من الإجابة، لئلا أنسب إلى ابي بكر حرفاً أجمع الناس على خلافه.
وقال أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء قثال: وحضرت مجلس شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، أبي سعيد السيرافي، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي، يشرح له ترجمة المدخل إلى كتاب سيبويه من تصنيفه. فقال له: علق عليه، واصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس، ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: - أيد الله القاضي -، أنا مؤثر لذلك، ولك اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده. فقال له: ألك عيال؟ قال لا. قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات. قال: فأنت ريح القلب، حسن الحال، ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة، والسؤال والمناظرة، واحمد الله تعالى على خفة الحاذ، وحسن الحال. وأنشده: إذا لم يكن للمرء مال ولم يكن  له طرق يسعى بـه الـولائد
وكان له خبز وملح ففيهـمـا  له بلغة حتى تجيء المـوائد
وهل هي إلا جوعة إن سددتها  فكل طعام بين جنبيك واحـد
قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي الكامل للمبرد، فجاءه أبو أحمد بن مردك وكان هذا من ساوة، واستوطن بغداد وولد بها، وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقه ويرعاه له. فقال: ايها الشيخ عندي ابنة بلغت حد التزويج، وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها، فما ترى ومم أزوجها؟ فقال: فمن يخاف الله تعالى، وأكثرهم تقية وخشية منه، فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرج من ظلمها، فاستحسنا ذلك وأثبتناه ثم قال: لا تنسبوا هذا إلي، إنما هذا قول الحسن.

قال: وشبيه هذه الحكاية: أن رجلاً وقف على الحسن فقال: علمني ما يقربني إلى الله تعالى وإلى الناس، قال: أما ما يقربك إلى الله فمسألته. وأما ما يقربك إلى الناس فترك مسألتهم. وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، وكان يرعى حق أبيه فيه، لأنه كان وجيهاً شريفاً، فلما كان يوم الأحد قال له: ما الذي أخرك؟ فأشار إلى شرب الدواء، ولأجله تأخر عن المجلس، فأنشدنا

لنعم اليوم يوم السبت حـقـاً  لصيد إن أردت بلا افتـراء
وفي الأحد البناء فـإن فـيه  تبدى الله في خلق السمـاء
وفي الإثنين إن سافرت حقاً  يكون الأوب فيه بالنـمـاء
وإن ترم الحجامة فالثـلاثـا  ففي ساعاته درك الشفـاء
وإن شرب امرء يومـاً دواء  فنعم اليوم يوم الأربـعـاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج  ففيه الله آذن بالـقـضـاء
ويوم الجمعة التـزويج فـيه  ولذات الرجال مع النسـاء

قال: ولما قبل ابن معروف شهادته، عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال: أيها الشيخ، إنك إمام الوقت وعين الزمان، والمنظور إليه والصدر، وإذا حضرت محفلاً كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كل محفل وناد، والألسنة مقرة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لاب معروف واختلافك إلى مجلسه، وصرت تابعاً بعد أن كنت متبوعاً، ومؤتمراً بعد أن كنت آمراً، وضعت من قدرك، وضيعت كثيراً من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحداً من صحبك. فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة ومنافسة لأقرانه وإخوانه، ومع ذلك له من السلطان منزلة. وبلغني أنه يستضيء برأيه، ويعده من جملة ثقاته وأوليائه، وعرض بي، وصرح في الأمر مرة بعد أخرى، وثانية عقب أولى، فلم أجب إليه، ولم أسلس قيادي له، فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضر به وينتفع به غيري. وإذا اتفق أمران، فاتباع ما هو أسلم جانباً وأقل غائلة أولى. وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام، ورد عليه من آمد صاحب لأبي العباس بن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة، وألفاظ حسنة، ومعان منتقاة. وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، ومم لازمه سنين عدة، وعلق عنه على ما ذكره الشاشي، زهاء عشرة آلاف ورقة من شرحه لكتاب سيبويه وغيره، درساً ومذاكرة. وكانت له أيضاً بضاعة قوية في علم الهيئة، وبصر تام بمذهب الكوفيين في النحو، حتى ما كان يطاق وكان من أصدر الكتاب على يده رجلاً كردياً، عليه جبة ثقيلة فوقها صناعة عظيمة، قد أضرت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز. وكان الشيخ يبين لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: (مثل ما أنكم تنطقون). والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكردي ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ، في أي شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كل أحد، ولا يتصوره كثير من الناس. قال: ففسره لي لعلي أفهمه. قال: لا يكو ذلك أبداً. قال: أنت عالم، ومن اقتبس منك علماً لزمك الجواب. فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه، وتنتفع به. فأخذ الكردي في المطاولة، وإيراد الهذيان وما لا محصول له. وسكت عنه أبو سعيد، وصمت هو أيضاً. وجعل أبو سعيد على عادته، يبين ويوضح ويتكلم، وينثر الدر ولا يهدأ ولا يفتر لسانه، ولا يجف ريقه. والكردي ملازمه، وكأنه كالمتبرم به، والمستثقل لجلوسه، وملازمته إياه إلى أن قام ومضى.
ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلاً تمكن من أحد تمكن هذا منا اليوم، وإن ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إلي، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضاً، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سراً، وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم علي بذلك، ومع هذه الحالة، لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني. فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال

:
يا شقيق الرصاص والـجـبـل  وقـريع الأيام فـي الـثــل
أرح حياتي فقد هجمت عـلـى  نفسي وأشرفت بي على أجلـي
والله لو كـنـت والـداً حـدبـاً  وكنت تحيي الأموات في المثل
وتمزج الثلج في العساس لدى ال  قيظ وعند الشتاء بـالـعـسـل
رحلت عن ذاك عـنـد آخـره  واخترت ألا أراك في الرحـل
فخذ طريفـي وتـالـدي فـإذا  لم يبق شيء فخذ إذاً سمـلـي
وارحل إلى الظلمة التي ذكرت  من خلف قاف يا شر مرتحـل

 
قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد، فأضرت بالزروع والأثمار، وغلت الأشعار، وأثر في أحوال الاس. فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي، وكل منا شكا حاله، وذكر خلته، وكان فينا رجل مزارع، ذكر أنه زرع بنواحي النهروان أربعة آلاف جريب ملكاً وضماناً وإجارة رجاء الفائدة، وقد أتى عليها الجراد، وهلك ذلك الرجل لأجله.
ثم قال أبو سعيد: لا يهولنك أمرها، فإنها جند من جنود الله مأمور. بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس، فأخذها ونشر جناحها وقال: أتعلمو ما هو مكتوب عليها؟ قالوا لا، قال: مكتوب عليها: أنا مغلي الأسعار، مع تدفق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حير الناظري، ثم قال: ومن أحسن ما وصف به الجراد، قول بعض الخطباء حيث يقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقاً وسماها جراداً، وألبسها أجلاداً، وجندها أجناداً، وأدمجها إدماجاً، وكساها من الوشي ديباجاً، وجعل لها ذرية وأزواجاً، إذا أقبلت خلتها سحاباً أو عجاجاً، وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجاً، مزخرفة المقاديم، مزبرجة المآخير، مزقة الأطراف، منقطعة الأخفاف، منمنمة الحواشي، منمقة الغواشي، ذات أردية مزعفرة، وأكسية معصفرة، وأخفية مخططة. معتدلة قامتها، مؤتلفة خلقتها، مختلفة حليتها، موصولة المفاصل، مدرجة الحواصل، تسعى وتحتال، وتميس وتختال، وتطوف وتجتال، فتبارك خالقها، وتعالى رازقها، من غير حاجة منه إليها، رحمة منه عليها، أوسعها رزقاً، وأتقنها خلقاً، وفتق منها رتقاً. ووشج أعراقها، وألجم أعناقها، وطوقها أطواقها، وقسم معايشها وأرزاقها، تنظر شزراً من ورائها، وترقب النازل من سمائها، وتحرس الدائر من حولها. سلاحها عتيد، وبأسها شديد، ومضرتها تعديد تدب على ست وتطير، فسبحان من خلقها خلقاً عجيباً، وجعل لها من كل ثمر وشجر نصيباً، وجعل لها إدباراً وإقبالاً، وطلباً واحتيالاً، حتى دبت ودرجت، وخرجت ودخلت، ونزلت وعرجت، مع المنظر الأنيق، والعصب الدقيق، والبدن الرقيق (هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
ثم قال: وماذا تقولون في طير؟ إذا طار بسط، وإذا دنا من الأرض لطع، رجلاه كالمنشار، وعيناه كالزجاج. عينه في جنبه، ورجله أطول من قامته، ألا وهي الجرادة. ثم قال: وأحسن منه: جيدها كجيد البقر، ورأسها كرأس الفرس، وقرنها كقرن الوعل، ورجلها كرجل الحمل، وبطنها كبطن الحية، تطير بأربعة أجنحة، وتأكل بلسانها، فتبارك الله ما أحسنها! وأحس ما فيها: أنها طعام طاهر حياً وميتاً، ونقل تجدب أقواماً وتخصب آخرين. فقلنا له: ما معنى قولك تجدب أقواماً وتخصب آخرين؟ قال: إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال، فهي خصب لهم وميرة، وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب، لأنها تأتي على الشوك والشجر، والرطب واليابس، فلا تبقي ولا تذر.
قال: وقال أيضاً في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة، إلا استفاد بها قدمة وحظوة. قال: وما رأيت أحداً من المشايخ كان أذكر لحال الشباب، وأكثر تأسفاً على ذهابه منه، فإنه إذا رأى أحداً من أقرانه قد عالجه الشيب تسلى به، ولم يزل يسأله عن حاله، كانت في أيام الشباب وزمن الصبا. وإذا ذكر بين يديه ما يتعلق بالشيب والشباب، بكى وجداً وحن، وشكا وأن، وتذكر عهد الشباب. وكان كثيراً ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها. وأنشد يوماً:

فإن يكن المشيب طرا علينـا  وولى بالبشاشة والشـبـاب
فإني لا أعاقـبـه بـشـيء  يكون على أهون من خضاب 
رأيت بـأن ذاك وذا عـذاب  فينتقم العذاب من الـعـذاب
قال: وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:  
ولو أن دار الشيب قرت بصاحب  على ضيقها لم نبغ داراً بـداره
ولكن هذا الشيب للـمـوت رائد  يخبرنا عنه بـقـرب مـزاره

 
قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل اتلنبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ، دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي. ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟ فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه، وأما الذي يقتضيه الرأي ويجبه العقل، ويلزم من حيث الاحتياط، والأخذ بالأحسن والأولى، فتركه والعدول عنه.
فقال له: بين لنا - عافاك الله -. فقال: العم أنه لو كان المسكر حلالاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكان يجب على العاقل رفضه وتركه، بحجة العقل والاستحسان. فإن شاربه محمول على كل معصية، مدفوع إلى كل بلية، مذموم عند كل ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضر بالدماغ والعقل، والكبد والذهن، ويولد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة، حتى يصير بمنزلة المخبط المخريق والمئبئج، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحق العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاماً، وأفعاله ملاماً، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمرغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنى، وقال كل غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزرى به أصحابه، عند الله ملوم، وعند الاس مذموم، وربما يستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم، فيبكي دماً، ويشق جيبه حزناً، وينسى القريب، ويتذكر البعيد، والصبيان يضحكون منه، والنسوان يفتعلن النوادر عليه. ومع ذلك فبعيد من الله، قريب من الشيطان، قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان، وتمكن من ناصيته، وزي في عينه إتيان الكبائر، وركوب الفواحش، واستحلال الحرام، وإضاعة الصلاة، والحنث في الأيمان، سوى ما حل به عند الإفاقة من الندامة، ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة.
فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كل واضح وبرهان لائح، وحجة وأثر، وقول وخبر. فقال له: لولا ذهاب الوقت لا عوض له، لاستدللت لكل خصلة ذكرتها، ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله، أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قلت: إن الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه، ولك الأمر في هذا أظهر وأشهر من أن يبين ويوضح. ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له، وقد خالفه فيها أعيان أصحابه، والناقلة لمذهبه، ولكن لكل أريب هفوة، ولكل جواد كبوة، والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطإ، والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض، - والله المعين على أمر الدنيا والدين - قال أبو حيان: قال أبو سعيد: دخلت مسجداً بباب الشام يوماً أنظر أبا المنصور العمري فرأيت عربياً قد استلقى ومخلاته تحت رأسه، وهو يترنم بهذه الأبيات بحلق أطيب ما يكون، وصوت أندى ما يسمع:

سماء الحب تهطل بالصـدود  ونار الحب تحرق من بعـيد
وعين الحب تأتي بالمـنـايا  فتغرسه على قلب عـمـيد
وأول من عشقت عشقت ظبياً  له في الصدر قلب من حديد

 
فقلت له: أعد الأبيات. فقال لي: دخلت علي وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أماني دونها خرط القتاد، فأفسدتها علي. فحفظت الأبيات من قوله، وانصرفت وتركته. قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي:

 فكرت في شيب الفتى وشبـابـه  فأيقنت أن الحق للشيب واجـب
يصاحبن شرخ الشباب فيقـضـي  وشيبي إلى حين الممات مصاحب

 
ثم قال: ما رأيت أحداً كان أحفظ لجوامع الزهد نظماً ونثراً، وما ورد في الشيب ولاشباب، من شيخنا أبي سعيد. وذاك أنه كان ديناً، ورعاً تقياً، زاهداً عابداً خاشعاً، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني.
 
ما قرأت عليه خبراً ولا شيئاً قط فيه ذكر الموت والقبر، والبعث والنشور، والحساب والجنة والنار، والوعد والوعيد والعقاب، والمجازاة والثواب، والإنذار، والإعذار، وذم الدنيا وتقلبها بأهلها، وتغيرها على أبنائها، إلا وبكى منها، وجزع عندها، وربما نغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عاداته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله، ما كنا نستعين به ونستفيد منه، وما نجعله حظ يومنا. ورأيته يوماً ينشد ويبكي:

حتى الدهر من بعد استقامته ظهري  وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري
ودب البلى في كل عضو ومفصـل  ومن ذا الذي يقى سليماً على الدهر؟

 
قال: ووصى يوماً بعض أصحابه وكان يقرأ عليه شرح الفصيح لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للتفقه. قال: وأنشدنا:

 وذي حيلة للشيب ظل يحوطـه  يقرضه حيناً وحـينـا ينـتـف
وما لطفت للشيب حيلة عـالـم  من الناس إلا حيلة الشيب ألطف

 
قال أبو حيان: شكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم، ويدخل كل مدخل، حتى يحصل لنفسه وعياله بعض كفايتهم. فقال له: ثق بالله خالقك، وكل أمرك إلى رازقك وأقلل من شنبك وأجمل في طلبك، واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع، قد تكفل برزقك، فيأتيك من حيث لا تحتسبه، وضمن لك ولعيالك قوتهم، فيدر عليك منم حيث لا ترتقبه، وعلى حسب الثقة بالله يكون حسن المعونة، وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كل المئونة. وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين:

يا طالب الرزق إن الرزق في طلبـك  والرزق يأتي وإن أقللت من تعـبـك
لا يملكـنـك لا حـرص ولا تـعـب  فيسلماك ولا تدري إلـى عـطـبـك
إن تخف أسباب هذا الرزق عنك فكـم  للرزق من سبب يغنيك عن سبـبـك
بل إن تكن في أعـز الـعـز ذا أرب  فلا يكن زاد من لم تبل مـن أربـك
لا تعرضن لزاد لسـت تـمـلـكـه  واقنع بزادك أو فاصبر على سغبـك
ولست تحمد أن تعزى إلـى نـشـب  إذا عزيت إلى بخل علـى نـشـبـك
هب جاهل القوم غرته جـهـالـتـه  ألست ذا أدب فاعمل عـلـى أدبـك؟
لا تكلب على عرض الكرام تـعـش  والكلب أحسن حالاً منك في كلـبـك
ولا تعب عرض من في عرضه جرب  إلا وأنت نقي العرض من جـربـك
وإنما الناس فـي الـدنـيا ذوو رتـب  فانهض إلى الرتبة العلياء من رتبـك

 
قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد علي ابن المستنير، وكان هذا اب بنت قطرب، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق وحسن عشرة، وحلاوة كلام وفقر مدقع، وضر ظاهر وحالة سيئة، وأمر مختل ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال ومئونة مع نشاط القلب، وثبات النفس وطلاقة الوجه، وكثرة المرح والطرب والارتياح.
وقرأ يوماً على أبي سعيد ديوان المرقش وأخذ خطه بذلك، وعجل الانصراف من عنده. فقال له أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال، وأتمحل وأحتال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحك السن، قرير العين، فلما انصرف. قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه، لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ: وراءه حال يخفيها عنا، ويطويها منا؟ قال: ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو على همه وحزنه، فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهله. فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

قال في كتاب الإمتاع: فقال لي الوزير: أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين ابن المارغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذا، وابن الوراق واب حيويه. فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب، وأخرج من كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفين، وأظهر أثراً في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر وكان من أدباء ملوك آل سامان، سنة أربعين وثلاثمائة كتاباً خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة الغالب عليها الحرا وما أشبه الحران. وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأله عنها. وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمنه مسائل القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة.
وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف. وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الفرد. سأل عن سبعين مسألة في القرآن. ومائة كلمة في العربية، وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.
قال الوزير: وهذه المسائل والجوابات عندك؟ قلت نعم: قال: في كم تقع؟ قلت لعلها تقع في الأف وخمسمائة ورقة، لأ أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها، والاستمتاع بها، والاستفادة منها، وأين الفراغ وأين السكو؟؟ ونحن في كل يوم ندفع إلى طامة تنسى ما سلف، وتوعد بالداهية ثم قال: صل حديثك. قلت: وأما أبو علي: فأشد تفرداً بالكتاب وأكثر إكباباً عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافاً لغيره، وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له. كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره؟ بغريبه وأمثاله، وشواهده وأبياته. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا شيء ما تم للمبرد ولا للزجاج، ولا لابن السراج ولا لابن درستويه، مع سعة علمهم، وقبض بنانهم.
ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف. وحدثني أصحابنا: أن أبا علي اشتري شرح أبي سعيد بالأهواز - في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين، لاحقاً بالخدمة الموسومة به والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم، وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به، إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه وإظهار الخطإ.
وقد كان الملك السعيد هم بالجمع بينهما فلم يقض له. ذلك، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وأبو علي يشرب ويخالع، وما هذي سجية أهل العلم وطريقة الديانين. وأبو سعيد يصوم الدهر كله، ولا يصلي إلا في الجماعة، ويفتي على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يوجب اللائمة أحرى، وكان أبو سعيد حسن الخط، ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وسياسة وأنا غريب فيها. ومن العناء رياضة الهرم.
 
وحدثنا النصري أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال: كنت أخط بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوماً لأ أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته، فظن أنه لفضل العلم أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخلفاً لجاري العادة لفظاً، مباياً لمأثوره ترتيباً. قال: ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر:

 يا باري القوس برياً ليس يصلحـه  لا تظلم القوس أعط القوس باريها

 
ثم قال لأبي سعيد: خفف عنك أيها الشيخ، وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول. فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد.
ثم قال للصيمري أيها الأستاذ: ليس بمستنكر ما كان مني، ولا بمستكبر ما كان منه، إن مال الغني لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة.
وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير، والفقه والفرائض، والشروط والنحو، واللغة والعروض، والقوافي والحساب، والهندسة والشعر، والحديث والأخبار، وهو في كل هذا، إما في الغاية وإما في الوسط.
وأما علي بن عيسى: فعلي الرتب في النحو واللغة، والكلام والمطق، ولا عيب به إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد له صناعة وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً، هذا مع الدين الثخين، والعقل الرزين.
وأما ابن المراغي: فلا يلحق بهؤلاء مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ وقوة النفس، وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر له في كتاب البهجة عرف ما أقول، واعتقد فوق ما وصفت.
وأما المرزباني وابن شاذان، والقرميسيني وابن الخلال، وابن حيويه: فلهم رواية وجمع، ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.
وحدثني الشيخ الإمام علم الدين لاقاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال: حدثن تاج الدين أبو اليمن زيد ابن الحسن الكدي شيخنا قال: بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول: أول من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله:

 تغيرت البلاد ومن عليهـا  فوجه الأرض مغبر قبيح 
تغير كل ذي طعم ولـون  وقل بشاشة الوجه المليح
فقال أبو سعيد: يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء. فقال: وكيف ذلك؟ قال: بأن تنصب بشاشة على التمييز، وترفع الوجه المليح بقل، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله: فألفيته غير مستعتـب  ولا ذاكر الله إلا قليلاً 
وقال أبو حيان: جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد، وكان ابن عباد يتعصب له ويقدمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه وأبان عن نفسه، وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم.
فقال أبو موسى الخشكي: إلا أنه لم يعمل في كتاب شرح سيبويه شيئاً، فنظر إليه ابن عباد متنمراً ولم يقل حرفاً، فعجبت من ذلك. ثم إني توصلت ببعض أصحابه، حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبه عن أبي سعيد فقال: والله لقد ملكي الغيظ عن ذلك الجاهل حتى عزب عي رأيي، ولم أجد في الحال شيئاً يشفي غيظي وغلتي منه، فصار ذلك سبباً لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم وما كان ذلك حلماً، ولكن طلباً لنوع من الاستخفاف لائق به. فوالله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب. وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره، مع كثرة فنونه، وخوافي أسراره؟ وكان أبو موسى هذا من طبرستان، فعد هذا التعصب من مناقب ابن عباد، وحجب أبا موسى بعد ذلك.
 
ومن عجيب ما مر بي: ما قرأته في كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي، لأبي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي، وكان قد رد فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري. وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتننبي، وأخذ المغربي يرد عليه فقال: ورأيته قود استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدب الأمير أبي إسحاق بن معز الدولة أبي الحس بن بويه، وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب. قال: ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد؟ إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدبة. وبمثل هذا جزت سنة العرب في القديم، كات تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ، وتأتي الشعراء من سائر الآفاق فتعرض أشعارها عليه، فيحكم لمن أجاد، وخبره مع حسان وغيره معروف. ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم، لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس. وما عرف له من ظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه.
وأما إعطاء أبي سعيد خطه، فيوشك أن يكون من جنب ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد، وأبو بكر القنطري، وأبو الحسين بن الخراساني، وهما وراقان أيضاً من جلة أهل هذه الصنعة: أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب - استكتبه بعض تلامذته - حرصاً على النفع منه، ونظراً في رق المعيشة. كتب في آخره وإن لم ينظر في حرف منه.
قال الحسن بن عبد الله: قد قرئ هذا الكتاب علي وصح، ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين، وتأبيه من أخذ رزق على القضاء، وقناعته بما يحصل من نسخه هذه، والله أعلم بما كان



مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي - رحمة الله عليه -
قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى. واختصرتها فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام، فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه، وبين هذين الشخصين بحضرة أولئك الأعلام، ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي ابن عيسى النحوي الشيخ الصالح، فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة وفيهم الخالدي، وابن الإخشيد، والكندي، وابن أبي بشر، وابن رباح، وابن كعب، وأبو عمرو قدامة بن جعفر، والزهري، وعلي بن عيسى ابن الجراح، وأبو فراس، وابن رشيد، وابن عبد العزيز الهاشمي، وابن يحيى العلوي، ورسول بن طنج من مصر، والمرزباني صاحب بني سامان: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام عليه، واستفدناه من مواضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه، فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته، وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدي وأهله أنصاراً، وللحق وطلابه مناراً، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما؟. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصو في الصدور، غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيغة، والعيون المحدقة، والعقول الجامدة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة، كالصراع في بقعة خاصة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك، يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمر به هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، - ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم -. ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعنى به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه، كان كلامنا معك في قبول صوابه، ورد خطئه على سنن مرضي، وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات، يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه كالميزان، فإني أعرف به لارجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
 
فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، من لك بمعرفة الموزون؟ أهو حديد أم ذهب، أم شبه أم رصاص؟ وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزو وإلى معرفة قيمته، وسائر صفاته التي يطول عدها. فعلى هذا لم ينفعك الوز الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول: حفظت شيئاً وضاعت منك أشياء وبعد: فقد ذهب عليك شيء ههنا، ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يكال، وفيها ما يوزن، وما يذرع، وفيها ما يسمح، وفيها ما يحزر.
وهذا، وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة، والأجسام ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ، والمماثلة الظاهرة، ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها، وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك، والهند، والفرس، والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوه حكماً لهم وعليهم، وقاضياً بينهم، ما شهد له قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك، لأن المنطق بحق عن الأغراض المعقولة، والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة، والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء.
ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطبوعات بالعقل، والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة، وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة، في أربعة وأربعة أنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا.
ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال نعم. قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا.
قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها، على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟ قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإ الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما لاتاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص، ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشأ ما نشأ من أنواع العلم، وأصناف الصناعة، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت، وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل: ألعلم في العالم مبثوث  ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة. وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك، لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطرة الظاهرة، والبنية لامخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم، وهذا جهل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم، يصيبون في أشياء ويخطئو في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال. وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عم قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير. وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا: فالاختلاف في الراي والنظر، والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرغت بالك، وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها، وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يوان، كما أنك غني عن لغة يونان وههنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم. قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ههنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعي، والتفاوت الأصلي؟ قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً.
قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا، أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به، وتباهى بتفخيمه، وهو الواو، وما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟ فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأن المنطق والنحو، واللفظ والإفصاح، والإعراب والبناء، والحديث والإخبار والاستخبار، والعرض والتمني، والحض والدعاء، والنداء والطلب، كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلاً لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً، وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأ مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيي متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه: الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.
 
قال أبو سعيد أخطأت: لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وضعها وبنائها، على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا، إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات، كالخطإ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أن ههنا سراً ما علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها، وحروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها، ونظمها ونثرها، وسجعها ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل، أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن نثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف، بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية، على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن الأغراض لا تكون فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا، فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزرى على العربية؟ وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها.
وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها، حال قوم كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي، والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ لا يصح له هذا الحكم، ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل، أكثر مما يفرح باستبداده وإ كان على حق، وهذا هو الجهل المبين، والحكم غير المستبين، ومع هذا فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل آخر أو اللغة بكمالها، وإن كان لا يجهلها كلها وإنما يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج. وهذه رتبة العامة، أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير؟ فلم يتأبى على هذا وينكر؟ ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة، وخفي القياس وصحيح البرهان. وإنما سألتك عن معاني حرف واحد. فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؟ وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء، كما يقولون: إن الباء للإلصاق. وإن في تقال على وجوه، يقال: الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس. ألا ترى هذا التشقيق هو من عقول يونان، ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند، والترك، والعرب، فهذا جهل من كل من يدعيه، وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذا قال: في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع السكيت.
فقال ابن الفرات: أيها اشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو، حتى تكو أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع ذلك فهو متشيع له.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: أكرمت زيداً وعمرواً. ومنها القسم في قولك: والله لقد كان كذا وكذا. ومنها الإستئناف كقولك: خرجت وزيد قائم، لأ الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى رب التي هي للتقليل، نحو قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق. ومنها: أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد، واصل، وافد. وفي الفعل كقولك: وجل يوجل. ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه)، أي ناديناه. ومثله قول الشاعر: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى  بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل 
المعنى انتحى بها. ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً)، أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته. ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك: استوى الماء والخشبة، أي مع الخشبة.
 
فقال ابن الفرات لمتى. يأبا بشر، أكان هذا في نحوك؟ ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ههنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الإخوة؟ قال صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته؟ قال صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلح وجنح وعصب ريقه.
فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى: جوابك عنها صحيح، وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها. والمسألة الثانية: جوابك عنها غير صحيح، وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها. قال متى: بين، ما هذا التهجين؟ قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، بل هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه. والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعى أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعني؟ والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ. هذا كان يصح لو كان المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد في الوهم السياح، والخاطر العارضي، والحدس الطارئ.
وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.
قال ابن الفرات: يا أبا سعيد، تمم لنا كلامك في شرح المسألة، حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.
قال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك، وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز، والفصل بينهما: أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، دليل ذلك، أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته، كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال، لأن الحمار غير البغال. كما أن زيداً غير إخوته. فإذ قلت: زيد أفضل الإخوة جاز. لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة. ألا ترى أنه لو قيل من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير. فلما كان على ما وصفنا، جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس فتقول: زيد أفضل رجل، وحمارك أفره حمار، فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهماً ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد.
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطإ في ذلك وإن زاغ شيء عن النعت، فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل، فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عليهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع، والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم. فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون، بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول: هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً، ثم به نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ودقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره، والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا علي درهم غير قيراط؟ قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست ازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ههنا ما هو أخف من هذا.
قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بين هذه المعاني التي تضمنها لفظاً لفظاً. قال متى: لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق شيئاً لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها، ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب، كالسبب والآلة، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والعموم والخصوص، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب. ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعو الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال، فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق، وتهويل ورعد وبرق. وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستئذلوا عزيزاً. وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع، والخاصة والفصل، والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأيية، والماهية والكيفية والكمية، والذاتية والعرضية، والجوهرية والهيولية، والصورية والإنسية، والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولو: جئنا بالسحر في قولنا: لا شيء من باء وواو وجيم، في بعض باء وفاء في بعض جيم، وإلا في كل ب و ج في كل ب، فا، إذاً لا في كل ج، وهذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترهات، ومغالق، وشبكات، ومن جاد عقله وحسن تمييزه، ولطف نظره، وثقب رأيه، وأنارت نفسه، استغنى عن هذا كله، بعون الله وفضله. وجودة العقل وحسن التمييز، ولطف النظر وثقوب الرأي، وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية، يختص بها من يشاء من عباده. وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم، وتتبع طريقكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أ تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا، ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم، وهذا منكم لجاجة ونكول، ورضىً بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض. هذا قولكم في فعل وينفعل، ولم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل، وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة.
 
فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه قال ولا مجال، وأنت إذا قلت لإنسان: كن منطقياً فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً، أو اعقل ما تقول، لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول، لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحوياً لغوياً فصيحاً، فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك، وقدر اللفظ على المعنى فلا ينقص عنه. هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد، فاجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وسدد المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها شيئاً حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه، عز وجل، وكرم وعلا، واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أن يمترى فيه، أو يتعب في فهمه، أو ينزح عنه لاغتماضه، فبهذا المعنى يكون جامعاً لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أني لا أدري، أيؤثر ما أقول أم لا؟ ثم قال: حدثنا، هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أم رفعتم الخلاف بين اثنين؟؟ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحق ما تقوله؟ هيهات، ههنا أمور ترفع عن دعوى أصحابك وهذياهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم، ودع هذا. ههنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك. قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط. ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معاً وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كل منهما. وقال آخرو: له أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأني لك بهما؟ وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضاً. قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل. فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل على اعتراضه؟. قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأ الأصل مسموع لك حاصل عندك. وما يصح به أو يطرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة، فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل. والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان، أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاص من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق، وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم، ووقفت على غورهم في فكرهم، وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة، والكنايات المفيدة، والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتتابعوا عليه، أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم من أصحابكم، يقول في جواب مسألة: هذا من باب عدة. فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا، وغالطوه بها، وأروه من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل، فاسد المزاج، حائل الغريزة، مشوش اللب، قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام وتضاغط الأركان، هل يدخل في باب وجوب الإمكان، أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟.
 
وقالوا له أيضاً: ما تشبيه الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان، عند امتناع الواجب من وجوبه، في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله. وعلى هذا، فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة، والضعف والفساد، والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل، لسردت ذلك كله. ولقد مر بي في خطة: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول، والاتفاق في الفروع. وكل ما يكون على هذا النهج، فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال السرية. ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدو، ويغم الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات اليونان وفوائد الفلسفة والمنطق. ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل - إنه سميع مجيب -.
قال أبو حيان: هذا آخر ما كتبت عن علي بن عيسي اشيخ الصالح بإملائه، وكان أبو سعيد روى لمعاً من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ على نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذي حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً، وقد اختل كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس، وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف، ووجهه المتهلل، وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً، وأقررت عيوناً، وبيضت وجوهاً، وحكت طرازاً لا تبليه الأزمان، ولا يتطرقه الحدثان.
قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار، والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر وتحلى بحليته إلا جل في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة. وقلت لعلي بن عيسى، أكان أبو علي الفسوي حاضراً في المجلس؟ قال: لا، كان غائباً وحدث بما كان. وكان الحمد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.
قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئاً كان في نفسي، وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين المراغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان؟ وابن الوراق وابن حيويه؟ فكان من الجواب ما تقدم ذكره.
ونظير خبر أبي سعيد مع متى، خبره أيضاً مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضاً قال: لما ورد أبو الفتح بن العميد إلى بغداد، وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه، ووصل أبا سعيد السيرافي، وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال، كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد ابن العميد.
قال أبو حيان: انعقد المجلس في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله؟ فعجب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي سعيد ما كاد به يشك فيه، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمي!. فقال: وإذا خطبت على الرجال فلا تكن  خطل الكلام تقوله مـخـتـالا
واعلم بأن مع السكـوت لـبـابة  ومن التكلم ما يكـون خـبـالا
والله يا شيخ، لعينك أكبر من فرارك، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك أبين من منظومك، فما هذا الذي طوعت له نفسك، وسدد عليه رأيك؟ إني أظن أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان. فقال ابن العميد، وقد أعجب بما قال أبو سعيد: فتى كان يعلو مفرق الحق قوله  إذا الخطباء الصيد عضل قيلها
جهير وممتد العنان مـنـاقـد  بصير بعورات الكلام خبيرها
وقوله: القائل القول الرفيع الذي  يمرع منمه البلد الماحل 
والتفت إلى العامري فقال:  
وإن لـسـانـاً لـم يعـنـه لـبـابـه  كحاطب ليل يجمع الـرذل حـاطـبـه
وذي خطل بـالـقـول يحـسـب أنـه  مصيب فما يلمم بـه فـهـو قـائلـه
وفي الصمت ستر للـغـبـي وإنـمـا  صحيفة لب الـمـرء أن يتـكـلـمـا
وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى  إذا لم يكن للنطـق وجـه ومـذهـب
ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفريضة.
قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا؟ الكبير في أنفسنا، قال: ما دهيت قط بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب شرح كتاب المنطق سنة عشرين وثلاثمائة، في مجلس أبي جعفر ابن الفرات مناظرة، كانت هذه أشوس وأشرس منها.