الإستشارة في القضاء الإسلامي. د . محمود السيد الدغيم
طبق القضاة المسلمون نظام الإستشارة وعقدوا مجالس القضاء حينما كان العالم غارقا في الفردية والإستبداد
قال محمد صلى الله عليه وسلم: ماندم مَنْ استشار، ولا خاب من استخار.
وقال عمر بن عبد العزيز: إنّ القاضي ينبغي أن تكون فيه خمسُ خِلالٍ، فإنْ نقصتْ واحدةٌ ؛ كانت وصمةً: العلمُ بما قبلَهُ، والحكمْ عند الخصم، والتّنزُّه عن المطمعِ . والإحتمالُ لِلآئمةِ، ومشاورةُ ذوي العلم.
تمهيد: يدَّعي بعضُ الباحثيَن خُلُوَ القضاءِ الإسلاميِّ مِنَ الإستشارةِ، ويؤكِّدون فَرْدِيَّةَ القاضي الإسلامي، وهذا وَهْمٌ سَبَبُهُ عَدَمُ استقراءِ التُّراثِ القضائيِّ الإسلاميِّ، أوْ تَجَاهُلُ وُجُودِ الإستشارةِ سَهْواً أوْ عَمْداً لِلنَّيلِ مِنْ تكامُلِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ الصَّالحة لكُلِّ زَمانٍ ومكانٍ، الْمُحقِّقَةِ لِلسَّعادةِ الإنسانيةِ في الدُّنيا والآخرة.
فالإسلامُ عقيدةٌ وعِبادةٌ ونِظام، ومَدارُ بَحْثِنا هَذا هُوَ عَرْضُ نِظامِ الإستشارَةِ القَضائيةِ في الإسلامِ.ويتضمن البحثُ تعريفَ الشورى والإستشارةِ، وصفاتِ المستشارِ ، وحُكمَ القاضي باجتهادِ غيرِهِ، وتعدُّدَ القضاةِ والمُحكمين، وصفاتِ أربابِ مسائلِ القاضي وأعوانِهِ وكيفيةَ سيرِ عملِ الإستشارة، وطُرُقَ طلبِ المشورةِ وتقديمِها.كما يتضمنُ البحثُ نماذجَ من الإستشارة القضائيةِ، التي حصلتْ في مجالسِ القضاء الإسلاميةِ، والتي تجاوزت مكانَ مجالسِ القضاء، حيثُ استشار القُضاةُ مَنْ هُمْ أعلم منهم ولو كانوا في مدينة أخرى.
المشاورة - في الإصطلاح-
الشورى أساس العدل :
ولهذا أقرَّ الدينُ الإسلاميُّ الحُريّةَ الإنسانيةَ وَوَضَعَ لها ضَوابِطَ تَحْفَظُها مِنَ الزَّلَلِ والتَّحَوُّلِ إلى حُريةٍ حَيوانيَّةٍ فَالتةٍ. ودَليلُ ضَبْطِ الْحُريَّةِ الإنسانيةِ -الفردية والعامّة- في الإسلامِ هو: إِقْرارُ نِظامِ الشُّورى التي تَواترتِ الأدلةُ النَّقليةُ الْقطعيَّةُ بِوُجُوْبِها في القُرآنِ بقوله تعالى { وأمرهم شورى بينهم} وقوله تعالى { وشاورهم في الأمر} وفي السُّنَّةِ فإنّ رسول الله قبل أن يُصدِرَ حُكماً قضائياً قد ( شاور علياً وأُسامةَ فيما رَمَىْ به أهلُ الإفكِ عائشةَ فسمعَ منهما) وفي أقوالِ وأعمالِ الخلفاءِ، فقد قال البغوي: (الذي توفي: سنة 516 هـ) ( كانت الأئمةُ يستشيرون الأُمناءَ من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، وكان مجلسُ عمرَ مُغتصّاً من القُراء - الفقهاء- شُباناً كانوا أوْ كُهولاً فربما استشارهم ، فيقول: لايمنعنّ أحدَكم أن يُشير برأيهِ، فإنّ العلمَ ليس على قدْرِ السّنِّ، ولا على حداثتهِ، ولكنَّ اللهَ يضعُهُ حيثُ يشاء) .
النِّظامُ الْحُكُوْمِيُّ الإسلاميُّ والشُّورى:
أمَّا الشُّورى فقدْ سادتْ أيامَ رسولِ الّله محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، على مُستويَيْنِ.
1ً- الشَّورى بطلبٍ من رسول الله محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم
2ً- الشُّورى بطلبٍ من بعضِ الصَّحابةِ
والشورى
بعد وفاة رسول الله
1-
2- فَصَلَ عُمَرُ رضي الله عنه الولاية التفيذية عن السلطة القضائية التشريعية
-
وممّا يؤثرُ عن عُمرَ أن امرأةً أتته فأثنت على زوجها ،فقالتْ: ( هو من خيرِ أهلِ الدُّنيا يقومُ الليلَ حتى الصباح، ويصومُ النّهارَ حتى يُمسي) ثُمّض أدرك الحياءُ المرأةَ) فقالَ لها عمر :( جزاكِ اللهُ خيراً فقد أحسنتِ الثناءَ) ، وذهبت المرأة خجلى من البوح بدعواها، فقال له جليسُهُ كعبُ بنُ سُوْرٍ الأزدي: (جاءت تستعديكَ على زوجها، قال: أو ذاكَ أرادتْ ؟ قال: نعم . فَرُدَّتْ، فقال عمر: لابأسَ بالحقِّ أن تقوليهِ. إنّ هذا زعمَ أنّكِ جئتِ تشتكين زوجَكِ، أنّه يجتنبُ فِراشَكِ، قالتْ : أجَلْ. فقال لكعب : اقْضِ بينهما ، فإنّكَ فَهمتَ من أمرِهما ما لم أفهمْهُ، فقال كعب: أميرُ المؤمنين أحقُّ أن يقضيَ بينهما، فقال: عزمتُ عليك لتقضيَّنَّ بينهما، قال: فإني أرى كأنّها امرأةٌ عليها ثلاثُ نسوةٍ ؛ هي رابعتُهُنَّ، فأقضي له بثلاثة أيامٍ يتعبّدُ فيهنَّ، ولها يومٌ وليلةٌ ، فقال عمر: والله مارأيُكَ الأوّلُ بأعجبَ منَ الآخَرِ . اذهبْ -فأنت قاضٍ- إلى البصرة).
والمشهور عن عمر رضي الله عنه كثرةُ استشارته لأصحابه ولاسيما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( ويتعوّذُ من مُعضلةٍ ليس فيها أبو الحسن). حتى قيل: (إذا اختلف الناسُ في أمر فانظرْ كيف قضى فيه عمر بن الخطاب، فإنّه لم يكن يقضي في أمرٍ؛ لم يُقضَ فيه قَبْلَهُ؛ حتى يُشاورَ).
3 -
استنتاج:
وكُتُبُ عمر إلي قُضاتهِ مشهورة، وهي تتضمنُ الأمرَ بالإستشارةِ ، ففي كتابه إلى القاضي شريحٍ قال عمر : ( وإنْ شِئتَ أنْ تُؤآمرَني ، ولا أرى مُؤآمرَتَكَ إيايَ إلاّ خيراً لكَ والسلام).
رُويَ أنّ القاضيَ شريحاً (كان يُشاورُ مسروقاً). وقال اسماعيل بن خالد: (رأيتُ شُريحاً يقضي وعندَهُ أبو عمرو الشيباني، وأشياخٌ نحوهُ يُجالسونه على القضاء).
غاية القضاء الإسلامي
ضوابط القضاء في الإسلام
كُلُّ ماوافقَ القرآن من أدلة شرعيةٍ، و أحكام قضائية أوسياسية أو اجتماعية فهو مُعتبرٌ شرعاً، وماعارضَ القرآنَ لا اعتِبارَ له شرعاً، فالقرآنُ هو النَّصُّ الدُّستوريُّ الضّابطُ باعتبارهِ المصدرُ الأوّلُ الذي تليهِ السنة فالإجماع فالقياس وما يلي ذلك من الأدلة الشرعية الأُخرى.
إنّ القاضيَ والواليَ والأميرَ والخليفةَ مُلزمونَ شرعاً بإصدار الأحكام في ضوء الأدلة الشرعيةِ ، والرعية مطالَبَةٌ بالطاعةِ المشروطة بالتزام الحاكم بتطبيقِ الشريعة، وإذا خالفَ وجبَ تقويمهُ بالإرشادِ أو العزل. وتغريْمُه ماأفسده. فواجبُ الحاكم والراعي والقاضي هو تحقيق العدالة، ورعايةُ المصالحِ الإنسانيةِ.
بناءً على ما تقدم نستطيع القولَ:
مشروعية الشورى والإستشارة:
طُرُقُ تحقيق الإستشارة
الإستشارة في مجال القضاء الإسلامي:
1ً- الإستشارة في اختيار القاضي:
ومثالُ ذلك مارواهُ وكيعٌ عن نفرٍ منَ البصريينَ قالوا: ( دخلنا على الخليفة هارون الرشيد، فكان أوّلُ ماسألنا عنه أنْ قالَ: ماتقولون في قاضيكُمْ؟ فقال عمرو بن النُّضر: رجلٌ لعّابٌ يا أميرَ المؤمنين، ليس من رجال القضاء. فقال الرشيد: اشهدوا قد عزلته؛ فمَنْ تُسمونَ؟ )
*
2ً- الإستشارة في أمور القضاء:
والمُشاورة مُستحَبَّةٌ، لا لأنّه يُقلِّدُهم ، فإنّ تقليدَهم غيرُ جائزٍ على الصحيح من المذهب، وقال ابن سُريج: إذا اتفقتْ خُصومةٌ لِمسافرٍ في واقعةٍ، ولم يغلبْ على ظَنِّهِ شيئٌ، وخافَ فوتَ الرّفقةِ ؛ فلهُ تقليدُ غيرهِ.
والصحيحُ هو الأوّلُ؛ وعليهِ- إنْ لم يتّضحْ لهُ الحقُّ- تأخيرُ الحكم إلى أنْ يتّضِحَ، بلِ المُشاورةُ لِيسمعَ مِنَ العلماء ما عندهم؛ ويعرضَهُ على رأيهِ، ويتنبّهَ لِلأدِلَّةِ والْمُشكلاتِ، فيكونُ ذلك معُوْنةً لهُ على تذليلِ طُرُقِ الإجتهادِ، ومعرفةِ مسالِكِ العِلَّةِ).
ويمكن لأهلِ الرأي والحلِّ والعقدِ حُضورُ مجلسِ القضاءِ بناءً على رغبة القاضي (فإنْ أحبّ القاضي أنْ يحضُرَ مجلسَهُ جمعٌ من الفقهاء وأهل العلم والمعرفة بالدين فعلَ ، وليس ذلك بواجبٍ) قبلَ وقوعِ إشكالٍ قضائيٍّ ، فإذا أشكلت القضيةٌ على القاضي وجبت عليه استشارةُ أهل العلم من أجل الوصول إلى الحكم العادل انسجامًا مع ماتفرضه الشريعة الإسلامية من عدالة. ومشاورة القاضي والحاكم لأهل العلم سُنّةٌ محمودةٌ والدليلُ : قولُ أبو هريرةَ رضي الله عنه: ( مارأيتُ أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ مِشاورة لأصحابه منه ). ورغم أنّ رسول الله قد استشار أصحابه ، فإن ذلك حصل على سبيل التعليم لهم لا على سبيل الحاجةِ إلى فقههم، فقد أُخرجَ عن الحسن قال: (قد عُلِمَ أنّهُ مابهِ إليهم حاجةٌ ولكن أراد أنْ يسْتَنَّ بهِ مَنْ بعْدَهُ )
القاضي وأهل الشورى:
نماذج من الإستشارة القضائية
*
*
*
*
*
*
*
إنَّ عدالة الدُّستورية الإسلامية
* فعندما تنتصرُ الإشتراكيةُ والشيوعيةُ يَسُودُ السلبُ والنّهبُ ، فَتُصادرُ الممتلكاتُ بدون وجهٍ شرعيّ، وتُوزّعُ الثرواتُ بشكل قسريٍّ قائمٍ على الظلمِ، مِمّا يُؤدي إلى نُشوء طبقةٍ رأسماليةٍ حديثةِ النّعمةِ تحتكر السلطة، فإذا سقطتْ هذه السلطة تحولَ مُستغلوها إلى مافيا عالمية، ودلُيلنا على مانقول : ما أسفر عنه الإتحاد السوفياتي المُنهار من عصابات المافيا، التي قطعت طرقات موسكو، وامتدت أصابعُها إلى العديد من الدول.
* وإذا انتصر نظامٌ رأسماليّ
* أمّا الشريعة الإسلاميةُ وما فيها من قوانين
رغم سمو النظام القضائي الإسلامي فإننا نلاحظ بين الحين والآخر ظهور الراغبين باستبدال الأعلى بالأدنى وذلك بطلب تبني القوانيين والدساتير الوضعية بدلاً عن الشريعة الإسلامية التي صانت حقوق المسلمين وغير المسلمين ، وحفظت الدين والأنفُس والأموال والأعراض والأنساب والعقول بشكل لم تدانيه الأنظمة الوضعية التي تستبيح المحرمات بدعوى الحرية الشخصية ، وهذا الوضع الذي نواجهه حالياً يتطلب تضافر الجهود المخلصة في سبيل إنقاذ البشرية من تسلط الأقوياء على الضعفاء وإخضاعهم للقوانين الوضعية التي يُفَصِّلُها الأقوياء وِفْقَ قياسات تناسب أطماعَهم الدُّنيوية دونما اكتراث بإنسانية
، فَقَدْ ضمنت حقَّ الملكيةِ، وحصّنَتها من الإنزلاقِ نحو الرأسماليةِ، كما ضَمِنَت للفقيرِ توفُرَ مُقوِّماتِ الحياة الكريمة، والفقيرُ والغنيُّ سواء في القضاء الشرعي الإسلامي، فلاطبقيةَ ولاتمييزَ بين الناسِ حسب ألوانهم وعروقِهم، فالعدلُ الإسلاميُّ يُوجِبُ المُساواةَ. والدليلُ: حُكمُ عُمرَ ابنِ الخطابِ على ابن عمرو بن العاص والي مصر الذي ضربَ القِبطيَ الذي سبقه في ميدان الفروسية، وقال له: أتسبقتي وأنا ابنُ الأكرمين. فحكم عليه عمر بالقصاصِ قائلاً للقبطي اضرب ابن الأكرمين. وقال عمرُ لابن عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمّهاتُهم أحراراً؟. وحُكمُ عمر تطبيقٌ للعدالة الإسلامية. وفي هذه الحادثة دليلٌ على حقّ المظلوم بنقلِ شكواهُ إلى أعلى المستويات القضائية إلى الخليفة، دون إعاقة بيروقراطية يُكَرِّسُها ظرفُ مكانِ وزمانِ وُقُوعِ الجريمةِ في القوانين الوضعية المُعاصرة. التي تُضيِّعُ الحقوقَ لأسبابٍ جغرافيةٍ ، وسياسيةٍ حيثُ تحمي دساتيرُ الدُّولِ وقوانينُها المُجرمين من رعايها بدعوى المصلحة الوطنية والقومية. يسودُ الْجَشَعُ والإستغلالُ ، فالغايةُ المُثلى رأسمالياً هي حفظُ المالِ أوّلاً مع ما يقتضيه ذلك من استغلالِ ربِّ العملِ للعاملين والْمُستهلكين بشكلٍ يُؤذي إنسانيةَ الإنسان، ويحطُّ من قَدرهِ إلى درجةِ تجعلُهُ يحسدُ الحيواناتِ التي حظيت بالرعاية في بيوت الرأسماليين. إنّ النظامَ الرأسمالي يُحوّلُ الإنسانَ إلى آلةٍ مُهمتُها صيانةُ رأسِ المالِ لاغير عملاً بقاعدةِ: الغاية تُبرّرُ الوسيلة. تتَّضحُ بالمُقارنةِ معَ الدستورية الوضعية التي أسفرتْ عن المآسي الإنسانية، وأخصُ النظامَ الرأسماليَ والنظامَ الشيوعيَ، فهذان النظامان سادا مساحاتٍ واسعة من العالم في هذا القرنِ العشرين. وكانا وما زالا يُدبرانِ الإنقلاباتِ العسكريةِ التي تقلِبُ السياسةَ وتُلغي الدساتيرَ الدّستوريةَ واللا دُستورية، وتَسُنُّ القوانينَ اللاقانونية. فيُحرّمُ ماكان حلالاً -قبْلَ الإنقلاب- ويُحلَّلُ ماكان حراماً قبْلَه. وُلِّيَ قضاءَ مصر القاضي عبد الرحمن بن ىعبد الله العمري من قِبل هارون الرشيد سنة 185 هـ ... ثم ولي القضاء هاشم بن أبي بكر البكري من قِبل محمد الأمين سنة 194 هـ . فلما قَدِمَ البكري فسخَ أقضيةَ العُمري في الفَرس وقال: لا يجوز إلاّ أن يكون بينهما مُحلّلٌ ، وهذان لا مُحلِّلَ بينهما ورد فرسَ مُرادٍ إليها. واستمر البكري في القضاء حتى توفي سنة 196 هـ . ونقض من أحكام العمري أيضاً ماجار به على المصريين لصالح القبط. كان بمصر نصراني سبّ النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب فيه القاضي المُفضَّل بن فَضالةَ إلى مالك بن أنس رحمه الله يسألُهُ عن قتله ؟ فكتب مالك يأمُرُ بقتلهِ . وكان علي بن سلمان الهاشمي والياً على مصر يومئذٍ فقُتِلَ ذلك النصراني.كتب عمر بن عبد العزيز إلى القاضي عدي بن أرطاة: أمّا بعد؛ فإنّ رأسَ القضاء اتباعُ ما في كتاب الله، ثُمّ القضاء بسُنّةِ الأئمّة الهُداةِ، ثُمّ حكمِ الأئمّة الهُداةِ، ثُمّ استشارةِ ذوي الرأي والعلمِ.وكتب عِياض إلى عمر بن عبد العزيز أيضاً في صبيٍّ افترعَ صبيّةً بأَصبَعهِ ؟ فكتب إليه عمر : أنّه لم يبلُغني في هذا شيئٌ ، وقد جعلته لك، فاقضِ فيهِ برأيكَ. فقضى لها على الغُلام بخمسين ديناراً. كتب الخليفة الأُمويّ عمر بن عبد العزيز إلى عِيّاض بن عبيد الله - قاضي مصر - إنّ رجلاً خرجَ يُعدِّلُ فرساً له في المضمار ؛ فصدَمَ امرأةً على الطريقِ فقتلها فأبى مَوالِيْهِ أنْ يعقِلوا عنه ؛ وليس يأخذُ العطاءَ؛ وإنّا لانشكُّ أنَّ مواليهِ كانوا آخِذيْ عَقْلَهُ - أي: ديته لو أُصيبَ ؛ وإنْ مُنعوا ذلك رأَوا أنْ قدْ ظُلموا ؛ فلا يسقُطَنَّ عندك عَقلُ -حقُّ - مسلم. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : فاجعل ذلك على مواليهِ .إن عبد الملك بن مروان كتب إلى عبد العزيز بن مروان يُعلِمُهُ : إنَ أهل الشام اختلفوا عليه في نَفَقَةِ المبتوتة - بالطلاق- قائلاً في كتابهِ: فاكتب إليَّ بما عندَ أهلِ مصرَ فيهِ - أي: في مسألة المبتوتةِ من منقول ومعقول .فجمع عبد العزيز بن مروان الأشياخَ ؛ فسألهم: وكان يونس بن عطية في أُخرياتهم؛ فقال له عبد العزيز : تكلمْ . فتكلّمَ فأُعجب به عبد العزيز . فسألهم عنه ؛ فقالوا له : هذا من سادات حضرموت . فولاهُ القضاء ، فكان أولُ قاض بمصر من حضرموت. لما قدِم مروان بن الحكم مصرَ سأل عن القاضي، فقيل: هو عابس بن سعيد المُرادي ( وُلي قضاءَ مصر والشُّرطَ ابتداءً من سنة 60 هـ / ) فدعاه مروانُ ، وقال له: أجمعتَ القرآن ؟ قال : لا. قال: فتفرض الفرائض ؟ قال: لا . قال: فتكتب بيدك ؟ قال : لا . قال: فبِمَ تقضي ؟ قال القاضي : أقضي بما علمْتُ ؛ وأسألُ عمّا جَهِلتُ. قال مروان: أنت القاضي . : قال أبو حنيفة:إنْ كان القاضي أعلمَ من مُخالفه - من أهل الشورى- عملَ على اجتهادِ نفسه، وإنْ كان مُخالفهُ أعلمَ منه عمِلَ على اجتهاد مُخالفهِ، لِقوله تعالى: { فاسألوا أهلَ الذّكرِ إنْ كُنتم لاتعلمون}. ويكون ذلك بحضور العلماء لمشاورتهم، حيثُ ينبغي للقاضي ( أنْ يُرتِّبَ مع علماء الفريقين الحضور في مجلس حُكمِهِ، لمشاورتهم في المُشكلات، ومُناظرتهم في الْمُجْتَهَداتِ، ثمّ لايخرجُ من منزله حتى يجتمعوا.وُلِّيَ القضاءَ في مصر عيسى بن المنكدر من قِبل عبد الله بن طاهر سنة 212 هـ الذي جمع أهل مصر وقال: إنّ جمعي لكم لترتادوا لأنفُسكم قاضياً . فكان أوّلَ من تكلم يحيى بن عبد الله بن بُكير فقال: أيُّها الأميرُ وَلِ قضاءَنا مَنْ رأيتَ؛ وجنِّبنا رجُلين: لاتولِّ قضاءَنا غريباً ولا زرّاعاً....وقال أصبَغ بن الفرج: إنّ الأمير أمرَ أنْ يحضرَ في مجلسه الفقهاءُ ، وأهلُ العلمِ لا الشُّعراءُ ولا الكهنةُ. فقال البويطي أنا أذكر للأمير ستةً يجعل هذا الأمرَ في مَنْ رآهُ منهم. قالَ مَنْ هُمْ ؟ قال: ... واختار الأميرُ من الستة القاضيَ عيسى بن المنكدر، ثم صرف سنة 215 هـ. تواترت الأنباءُ باستشارةِ الخلفاءِ وُجوهَ الرعيةِ في مسائلِ اختيارِ القضاةِ وتعيينِهم. تمسَّكَ الحكامُ المسلمونَ الحريصونَ على مَصالِحِ الرَّعِيَّةِ بمبدأِ الإستشارةِ في أمور الدولة بشكلٍ عامٍّ، وبأُمور القضاْءِ بشكلٍ خاصٍّ.وهي على مراتبَ. : إنّ كَيفيّةَ طَلَبِ الْمَشُورة، وتَقْدِيْمِ الإسْتِشارةِ تتمُّ في الشّريعةَ الإسلاميةَ بناءً على الإباحَةِ الأصليةِ عَمَلاً بِقاعِدَةِ: حُريّة الإختيار في كُلِّ ما لم يردْ فيه نَصٌ ينفيهِ أوْ يُثبتُهُ. يَتَّضِحُ لنا أَنَّ الشُّورى وَاجِبَةٌ في الإسْلامِ، أمَّا طُرُقُها وَكَيْفِيَّةُ حُصُوْلِها فَلا تَقْتَصِرُ على نَمَطٍ أوْ مَراسِمَ مُعيّنَةٍ ، بَلْ هِي مَفْتوحَةُ الأبوابِ لِكُلِّ ذِيْ رَأْيٍّ سَديدٍ يَسْتَطِيْعُ تَقْدِيْمَ مَا لَدَيْهِ بِالطَّريقَةِ الْمُناسِبَةِ التي يَهتدي إليها، مُشافَهَةً أوْ مُكاتَبَةً أوْ مُهاتَفَةً، مُباشرةً، أوْ غيرَ مُباشرةٍ عَبْرَ وسيطٍ آخر، أوْ مِنْ وراءِ حِجابٍ.وحكم الإستشارة القضائية هو الوجوب قياساً على الشورى، والوصف الجامع بينهما - أي: العلة - هو تحقيق المصالح ، ودفع المفاسد عن الناس. إنّ المصدرَ الأساسي للقضاء في الإسلامِ ثابتُ الأُسُسِ، وهو غيرُ جامدٍ ، بلْ مَرِنٌ يُلبي مُتطلّباتِ الإنسانيةِ دون عُدوان في إطار الحقوق والواجبات. : القرآن الكريم هو أساسُ مصادرِ الأحكام القضائية وغيرِها من الأحكام في الإسلام، فالقرآنُ أصلٌ تُرَدُّ إليه السنةُ والإجماعُ والقياسُ كما تُردُّ إليه الفروعُ، وتقضي الشريعةُ الإسلامية بخضوع الحاكم والمحكوم لأحكام ما أقرّهُ الإسلامُ من حلالٍ ،وما نهى عنه من حرام. : القاضي في الإسلامي ليس دكتاتورياً يأمُرُ وينهى حسب أهوائهِ ، وماتُمليهِ عليهِ غرائزُهُ وعواطفُهُ ومصالحُهُ الخاصة ، وإنَّما يجبُ شرعاً أنْ يقضيَ القاضي المسلمُ حسبَ ماتقتضيهِ أولوياتُ وَقُوَّةُ الأدلةِ الشرعيةِ الإسلاميةِ ؛ في سبيل تحقيق العدالة. وتأمين الحقوق الإنسانية ، التي ضمِنتْها الشريعة الإسلامية بضمانها الضروريات للناس: (الدين ، والأنفس، والعقول، والنسل، والمال) وبحفظها للحاجيات اللازمة لدفع الحرَجِ عن البشر ، ورفع التضييق عنهم؛ بشرط عدم التعارُض مع الضروريات، كما قضت الشريعة الإسلامية بوجوب حفظِ التحسينات التي تخدمُ تحقيقَ الضروريات والحاجيات، ولا تتعارضُ معهما ، ومثالها (العفو والصفحُ وأداء الحسنات ، ودرء السيئات، وحُسْنُ الخُلُق). بِناءً على ماتَقَدَّمَ يَتَّضِحُ لنا: أنّ الشّريعةَ الإسلاميةَ قَدْ أوجبتْ على الحاكمِ استشارةَ أهلِ الرأي ، والحلِّ والعَقدِ، والمُتخصصين. والهدفُ من ذلك هو حِفْظُ مَصالحِ البلادِ والعبادِ في إطارِ مَقاصِدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، كَمَا أوجبتْ تَقديمَ الرّأيِ السَّديدِ دُونَ مُوارَبَةٍ أوْ خِداعٍ، وحَتَّمَتِ الصِّدقَ والنُّصْحَ على الحاكمِ والمحكومِ ، والدليلُ هو قولُ رسول اللهِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم: (الدِّيْنُ النَّصيحةُ، قُلنا: لِمَنْ يارسولَ الله؟ قال: للهِ ولِرسولهِ ولأئِمةِ الْمُسلمينَ وعامَّتِهِمْ). ولا تقتصرُ الْمُناصحةُ في الإسلام على تقديمِ النَّصيحةِ وإنَّما تَشْمُلُ تقويمَ انحرافِ الحاكِمِ والْمَحكومِ. كان الخليفة الثالثُ عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا جاءه الخصمان -في المسجد- (قال لهذا: اذهب فادعُ علياً، وللآخر : فادعُ طلحةَ بن عبيد الله، والزبيرَ بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف. فجاؤوا، فجلسوا، فقال لهما: تكلّما، ثُمَّ يُقبلُ عليهم؛ فيقول: أشيروا عليَّ. فإنْ قالوا ما يُوافقُ رأيَهُ أمضاهُ عليهما، وإلاّ نظرَ، فيقومون مُسلمينَ). استشار الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( الناسَ في حدِّ شارب الخمر.) كما ( استشار عمر بن الخطاب في ديّة الجنين). (وكان القراءُ أصحاب مجالس عمرَ ومُشاورتهِ كُهولاً كانوا أو شُباناً وكان وقَّافاً عند كتابِ الله عزّ وجلَّ).. فالقضاء (هو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة، لأنه منصب الفصل بين الناس في الخُصومات حسْماً للتداعي ، وقطعاً للتنازع...وأوّلُ من دفعه إلى غيرهِ وفوّضه فيه هو عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فولّى أبا الدرداء معه في المدينة، وولّى شُريحاً في البصرة، وولّى أبا موسى الأشعري بالكوفة، وكتب له -في ذلك- الكتابَ المشهور، الذي تدور عليه أحكام القضاة، وهي مُستوفاة فيه...).( إلاّ أنَّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء؛ الفصل بين الخصوم فقط ، ثمَّ دُفعَ لهم بعد ذلك أمور أُخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى، واستقرّ منصب القضاء آخِرَ الأمر على أنّه يجمع مع الفصلِ بين الخُصومِ استيفاءَ بعض الحقوق العامّة...). (كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا وَرَدَ عليه حُكمٌ؛ نظر في كتاب الله تعالى فإنْ وجدَ فيه مايقضي به ؛ قضى به. وإن لم يجد في كتاب الله تعالى؛ نظر في سُنّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنْ وجدَ فيها مايقضي به ؛ قضى به. فإنْ أعياهُ ذلك سألَ النّاسَ: هل علمتم أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم ؛ قضى فيه بقضاءٍ؟ فرُبّما قام إليه القوم فيقولون: قضى بكذا وكذا. فإنْ لم يجدْ سُنّةً سنّها النبي صلى الله عليه وسلّم؛ جَمعَ رؤساءَ الناسِ فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيئ قضى به. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعلُ ذلك؛ فإنْ أعياهُ أنْ يجد ذلك في الكتاب والسّنّة؛ سألَ: هل كان أبو بكرٍ قضى فيه بقضاءٍ؟ فإنْ كان لأبي بكرٍ قضاءٌ؛ قضى بهِ، وإلاّ جمع علماءَ الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيئٍ؛ قضى به). اقتدى به الخلفاء فاستشاروا أهلَ العلم في القضاء، والأدلةُ كثيرةٌ نذكر منها التالي: هي أصلُ مشروعية الولاية العامّة على الأمة، وهي حقٌّ من الحقوق الأساسية في الإسلام، وواجبٌ أيضاً، وتؤدّى الشورى من أجل الأخرين ، أي: من أجل المحافظة على المجتمع، حكومةً وأفراداً. والدافع لها هو الحرص على حفظ المصالح بنوعيها العام والخاص ، ودفع المفاسد عامّة. وتعمّ المحافظةُ كافة شؤون الحياة الإنسانية. : ومثالُ ذلك ما حصلَ في غزوةِ بَدْرٍ. والشّورى فَرْضٌ واجِبٌ ، وأمرٌ لازمٌ تقتضيهِ مُناصحةُ الرعيَّةِ لِراعيها، والْمَحكومِ لِلحاكِمِ. والنّصيحةُ شَرْطٌ من شُروطِ الإيمانِ في الإسلام، والدليلُ منَ السُّنَّةِ مارواه البخاريُّ ومسلمٌ في الصَّحيحين عن جابرٍ رضي الله عنه قال: (بايعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم على إقامةِ الصّلاةِ ، وإيتاءِ الزّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلمٍ). : ومثالُ ذلك ما حَصلَ قَبْلَ غزوةِ أُحُدٍ. وسَببُ ذلكَ أنّ الشريعةَ أوجبتْ على الحاكمِ عَدَمَ مَنْعِ الرَّعِيَّةِ مِنْ قَضاءِ واجِبِ المُناصحةِ المُؤدِّيْ إلى المَشُوْرَةِ. والدليلُ مِنَ القرآنِ الكريمِ قولُهُ تعالى: { وشاورهم في الأمر} ويُستفادُ من هذهِ الآيةِ الكريمةِ الوُجُوبُ لا الندبُ. يَقومُ النِّظامُ الْحُكُوْمِيُّ الإسلاميُّ على الْحُريَّةِ والْعدالَةِ والْمُساواةِ والشُّورى. إنَّ الإسلامَ هوَ دِينُ الْفِطْرَةِ والحريَّةِ الْمُنَظَّمَةِ، والإنسانَ مفطورٌ على حُبِّ الحريةِ لأنَّ الحريةَ طبيعةٌ إنسانيةٌ أصيلةٌ، ولكنْ لِلحريَّةِ الفرديةِ حُدودٌ لايجوزُ أنْ تَتَعَدَّىْ حُرِّياتِ الآخرينَ، وإذا حَصَلَ التَّعدي وَجَبَ التَّأديبُ ، وفَرْضُ العُقوبةِ الرَّادِعَةِ حِفْظاً لِلْحُقوقِ العامَّةِ. ( هي الإجتماعُ على الأمرِ ليستشيرَ كلُّ واحدٍ منهم صاحبَه، ويستخرجَ ماعنده).من آراءٍ تساعد على إصدار الحكم العادل، واتخاذ القرارات المفيدة. فالقاضي الْمُشاوِرُ: هو الْمُستشيرُ ، والْمُوجَّهُ إليه طلبُ المشورةِ: مُستشارٌ ومُشاوَرٌ، ومُقدِّمُ المشورةِ: مُشيرٌ. والتداوُلُ : مُشاوَرَةٌ.