الفقهاء المعاصرون بين السندان الشعبي والمطارق الحكومية

الفقهاء المعاصرون بين السندان الشعبي والمطارق الحكومية
الدكتور محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن


يعيش الفقهاء المعاصرون وسط أزمات تفوق طاقاتهم، ولذلك تفرقوا إلى جماعات متصارعة على أكثر من صعيد داخلي وخارجي، ويسير صراع الفقهاء على خطين خطيرين رئيسين هما:
1: الصراع الإيجابي السلمي الذي يقوم على الجدل المحمود المستند على العلوم الشرعية والعقلية، وهذا الصراع المفيد قد صار هامشياً، وغير فعال على الساحة الإسلامية حيث تراجع لصالح الصراع الدموي الذي يسود ساحتي فقهاء السلطة، والفقهاء الشعبيين في الداخل من جهة أولى، وفقهاء الخارج من جهة ثانية.
2: الصراع السلبي التناحري الذي يستبيح تصفية الخصوم جسدياًّ دون دليل شرعي، وهذا الصراع بين الفقهاء يهدد الأمة الإسلامية بكل فئاتها عملاً بمقولة الرئيس الأميركي جورج بوش: "إما معنا وإما علينا" ولا مكان في هذا الصراع التناحري للوسطية التي يأخذ بها الإسلام في مُعظم القضايا، وذلك بممارسة الاستشارة والشورى من خلال آليات الجدل المحمود والمناظرة المفيدة.
وقد أسفر هذا الصراع الْمُركّب عن انقسام حاد في صفوف الفقهاء الشعبيين، وفقهاء السلطة، وأسفر هذا الانقسام عن شروخ واسعة بين الشعوب والسلطات في أكثر من دولة عربية وإسلامية، وأدى هذا الوضع الشاذ إلى ارتكاب الكبائر من الطرفين، فصارت قوى السلطات العسكرية تستبيح دماء بعض أبناء الشعب، وبعض الفقهاء الشعبيين لإرهابهم، وصارت القوى الشعبية ترد بالعنف على السلطات الحاكمة بتصفية بعض رموز أجهزة المخابرات، وبعض فقهاء السلطة أيضاً، وفي أحسن الحالات يقتصر الطرفان المتصارعان على إطلاق تُهم الخيانة والعمالة والردَّة، والتخلي عن جوهر الإسلام، والأخذ بفتاوى الإسلام الماركسي، أو الإسلام الماركسي، أو الإسلام البدعي.

وتحاول السلطات الحكومية التعتيم على هذا الواقع المخيف، وتستخدم كافة الوسائل المتاحة عن طريق التعليم والإعلام والإعلان، ولكن المشاكل لم تَعُد سراًّ في ظلِّ "العولمة الإليكترونية" وما تقدمه الفضائيات والإذاعات، والصحافة المتناقضة والمعارضة، وما تؤديه شبكة الإنترنت العنكبوتية من تبادل للمعلومات بين الأفراد والجماعات.
ويلعب الصراع بين الدول دوراً فعالاً باحتضان فريقٍ ما من الفرقاء المتصارعة مما يُهدِّد بانتقال الصراع الشعبي إلى صراعٍ دولي يتيح للقوى الخارجية فُرص التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية، ومثال ذلك مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الأميركية، ووضعت الخطط لنشره وتعميمه باستخدام الديبلوماسية في مكانٍ ما، واستخدام القوة العسكرية في مكان آخر، دون إصغاء إلى أي فقيهٍ إسلامي؛ سواء أكان من فقهاء السلطة أو من الفقهاء الشعبيين، وبذلك يخسر الفريقان المعركة، ويقعان تحت سيطرة غير المسلمين الذين يتمتعون بالقوة العسكرية الناتجة عن الوحدة والتوحيد.

وتشير المعلومات المتوفرة إلى عدم وجود جامعة عامة تُمَكِّنُ الفقهاء المسلمين من أخذ المكانة المناسبة بين فئات المجتمع الإنساني، والتفرُّقُ هو سيد الموقف في أكثر من دولة إسلامية، ولدى استعراض أحوال الفقهاء المسلمين عامّةً نستطيع أن نرصد المسائل التالية:

1: الفقهاء مجردون من السلطة التنفيذية، وقراراتهم وفتاواهم واجتهاداتهم لا تعدو أن تكون حبراً على ورق لأنها تبقى حبيسة المغلفات والدفاتر والدروج، ولا تقوم الحكومات بنقلها إلى حيز التطبيق، وذلك لأسباب لا تتناسب مع مصالح الحكومات التي صاغت دساتيرها بشكل يتعارض مع الإسلام بشكل سريّ أو علني ابتداءً برأس السلطة، وانتهاء بسلك القضاء ثم الشرطة، وأجهزة الأمن التي تنوعت اختصاصاتها، وكثُر إزعاجُها للمواطنيين بشكل عام.

2: يستمدُّ الفقهاء المسلمون سلطتهم من الأنظمة الحكومية المتعددة الاتجاهات، وهي تتراوح بين نظامٍ إسلاميّ خاضع لنظام غير إسلاميّ، ونظامٍ غير إسلاميّ بالأصل، ولذلك برز ما يُعرف بفقهاء السلطة، وهؤلاء يجتهدون، ويستنبطون الأحكام التي لا تُغيظ الحكام، ولا تتعارض مع مصالحهم التي تعارض الأصول والفروع، ولكنها قد تعارض الأحكام الشرعية، والعادات والتقاليد، وربما الأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة.

3: يحتلُّ الفقهاء منزلةً تتأرجحُ بين المنزلة الشعبية الْمُستَغَلَّة، والمنزلة الحكومية المستَغِلَّة، فلا هُمْ مُطلقون، ولا هُم مُعلقون، فالشعب يطالبهم بإنصافه مادياًّ ومعنوياًّ، والسلطة تطالبهم بمراعاة الأوضاع السياسية والاقتصادية، ولذلك فإنهم بين نارين، فإما طاعة الحاكم وإغضاب الشعب، وإما إرضاء الشعب وخسارة الوظيفة جراء غضب السلطة المسيطرة على رأس المال، ولذلك يصبح اجتهاد الفقهاء والفتاوى التي يصدرونها دون فائدة؛ لأنها محصورة في برج عاجيٍّ يحوِّل الفقيه إلى رجلِ سُلطةٍ يخشى السير في الشارع دون حراسات أمنية، وفي هذه الحالة يتحول الفقيه إلى عبء على السلطة، ولا يمكن أن يكون صمام أمان، ومثال ذلك ما نعانيه الآن من مشاكل العنف الذي يهدد السلم الاجتماعي بكل جوانبه في أكثر من دولة إسلامية.
وهكذا فلتت الأمور من أيدي فقهاء السلطة، وأنتجت الطبقات الشعبية فقهاءها الذين يُفتون فيطاعون دون تسلُّط أو ترغيب أو ترهيب، ويُطاعون طاعةً عمياء أحياناً جراء الثقة التي نالوها، وخسرها فقهاء السلطة، وذلك لأن الجماهير تتحرَّك بوحي مصالحها التي ضمنتها لهم مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية والتكميلية والتحسينية، والتي لم تَضْمَنْها السُّلطات الحكومية جراء الفساد؛ والجشع المستشري بين رجال السلطة، وجراء مواكبة فقهاء السلطة لتيارات التسلط وتنفيذ رغباتها غير الموضوعية.
4: يعاني الفُقهاءُ مِنَ الفُقهاءِ جرَّاء الصراع المذهبي الذي يلقى دعماً حكومياًّ في أكثر من مكان في ظل أنظمة مذهبية ضيقة الآفاق تستبيح التعاون مع غير المسلمين لإلحاق الأذية بالمسلمين الذين يختلفون مذهبياًّ، وهذه مصيبة أخرى، فبعض الفقهاء خرج عن حدود الوسطية، واستباح غير المباح بشكل انتقائي تحت تأثير دوافع الانتقام جرياًّ وراء المصالح الدُّنيوية.

5: يُطالَبُ الفقهاء بالتصدي للقوى التبشيرية المعادية للإسلام كاليهودية والنصرانية والهندوسية والبوذية، كما يعانون من البهائية والقاديانية والأحمدية وما هو على هذه الشاكلة، وهذا الطلب يؤدي إلى تباين مواقف الفقهاء، فالرسميون منهم مُجبرون على سلوك المسلك الديبلوماسية التي تتجاوز الحدود المسموح بها دينيا في بعض الأحكام مما يُسفرُ عن نِقمةٍ شعبية على فقهاء السلطة، وهذه النقمة تُعزِّز مواقع الفقهاء الشعبيين الذين يبيحون مقاومة وقتل المبشرين الذين يهددون عقائد المسلمين، ويستغلون ما يحظون به من دعم الحكومات غير الإسلامية.

6: يواجه الفقهاء معضلة المسلمين المرتدين الذين يجاهرون بالإلحاد، واستباحت الحرمات، وبعضهم يخفف خروجه ويموِّهُ الخروج، فيدعي العلمانية أو الماركسية، أو اتباع فرقة من الفرق التي تدعي الإسلام، وتعارض السنة وإجماع الأمة، وفوق ذلك فإنَّ هؤلاء يدعون أنهم مجتهدون، ويطالبون الفقهاء عامّةً باحترام اجتهادهم الشاذ المناقض للفقه الإسلامي.

7: يعاني الفقهاء من التخلف الذاتي على صعيد التكنولوجيا مما يفوت عليهم فرص الاستفادة من منجزات العصر الحضارية التي تساعدهم على البحث والتمحيص وتبادل المعلومات، وهذا التخلف يضعهم في موقع العاجز عن التعامل مع قضايا العصر الطارئة بالسرعة المطلوبة، وبذلك يقفون موقف العاجز عن اللحاق بالمعاصرة، فيلجؤون إلى التراث لتعويض التقصير في عالم المعاصرة، ويستخدمون إسقاطات متخلفة غير ناجعة، وغير مُقنِعة في عالَمٍ مُتطور.
8: هنالك تناقض بين فقهاء الحكومات؛ حيث نجد أن فقهاء كل دولة قد التزموا مواقف الدولة سراًّ أو جهراً، فتناقضت الفتاوى بين الجهات المختلفة، وَأَوَّلَ كُلُّ فريقٍ تأويلاً يناسب حكومته طمعاً بنيل ودِّ السلطة، ولو أدى ذلك إلى إغضاب الله تعالى ثم الشعوب الإسلامية، والقائمين على حفظ حدود هذا الدين.
ومثال ذلك المشكلة التالية:


أثارت وسائل الإعلام، ولا سيما المرئية من سينما وتلفاز الكثير من الجدل، وما يهمنا في هذا البحث مشكلة "ستار أكاديمي" لأنها طرحت شعبياًّ وحكومياًّ، وصدرت حولها فتوى شرعية، وتناقلت وسائل الإعلام الخبر التالي:
"هيئة كبار العلماء بالسعودية تحرم مشاهدة  «ستار أكاديمي»
أصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية، فتوى تحرم فيها بث ومشاهدة وتمويل "برنامج ستار أكاديمي"، وما شابهه من البرامج الأخرى لأنها تدعو صراحة إلى الفاحشة.
وأكدت الهيئة في الفتوى إن التحريم يشمل أيضًا:
المشاركة في مثل هذه البرامج، أو الاتصال من أجل التصويت فيها، أو من أجل إظهار الإعجاب بها.
وحملت الفتوى عنوان: 'بيان في التحذير من برنامج "ستار أكاديمي" وما شابهه من البرامج' وحملت الفتوى توقيع العلماء أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية، برئاسة الشيخ 'عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ' مفتي عام السعودية، بحسب ما ذكرته صحيفة «القدس العربي».
وكان البرنامج المذكور قد أثار استنكار المسلمين بشدة لتعارضه مع القيم الإسلامية ونشره للرذيلة، خاصة بين الشباب.
وبعد صدور هذه الفتوى خرجت المفاجأة الصارخة من الكويت على أعلى المستويات الحكومية، ففي يوم السبت 10 نيسان/ إبريل 2004م، التقى رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ صباح الأحمد الصباح مع رؤساء تحرير الصحف الكويتية، ودشَّن "مرحلة التغيير" فأيَّد دمج كليتي الشريعة والحقوق.
وبشأن حرية الرأي وما أثير من تصعيد من قبل التيار الديني ضد البرنامج التلفزيوني "ستار أكاديمي" والهجوم على متابعيه، والوقوف في وجه أية دعوة لإحياء حفل لنجومه في الكويت، قال الشيخ صباح:

"إن إقامة الحفلات "لستار أكاديمي" أمر سيحكمه القانون، وتساءل: "ليش(لماذا) أمنعه"؟.
وأضاف الشيخ صباح : "اللي يقول حرام.. فهناك غيرهم (ستار أكاديمي) يغني.. وشنو الفرق بين "هلا فبراير" و"ستار أكاديمي"؟.

ومضى قائلا: "أنا شخصيا أشاهد البرنامج.. وحفيداتي يبلغنني عنه.. والناس أذواق؟".
وأكد الشيخ صباح بأنه دعا إلى دمج كلية الشريعة في جامعة الكويت مع كلية الحقوق مؤكدا عدم رضاه أن تتحول كلية الشريعة إلى مصدر للإفتاء، وقال في هذا الصدد: "للأسف.. خرجنا عن نطاق الشريعة.. لماذا تصدر كل هذه الفتاوى من كلية الشريعة؟.. هل هي مختصة؟!.. الأوقاف هي المختصة".
وتساءل: "كم فتوى أصدروها.؟.. كل شيء حرموه.. حتى توزيع الدوائر حرموه.. إن الأصلح للطلاب والأصلح للكويت هو أن تدمج كلية الشريعة مع كلية الحقوق".

 وَرَفْضُ الفتوى السعودية من قبل الكويت دليل على الشرخ الواسع بين الفُقهاء على كافة المستويات، وخطورة الموقف الكويتي تنبع من أن البرنامج يبث تلفزيونياًّ ويقتحم بيوت المسلمين في كل مكان، وبذلك يلحق الموقف الكويتي الرسمي الأذى بشكل عالمي دون إصغاء إلى فقهاء السلطة أو الفقهاء الشعبيين، أو حتى مراعاة مصالح المسلمين.

بناء على ما ذكرناه فإننا نرى: إن فرص نجاح فقهاء السلطة على الصعيد الشعبي قد أصبحت قليلة في ظل تراجع السلطة أمام مطامع أعداء الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالشعوب العربية والإسلامية غير راضية عن أداء الحكومات التي أصبحت تدار من الخارج "بالروموت كونترول" وتنفذ ما يأمرها به أعداؤها، وتُعرض عن أصوات الشعوب، بل وتقوم الحكومات بالقمع لإسكات الشعوب عن حقوقها، وتطلب من الفقهاء أن يُرقِّعوا هذه الخروق التي اتَّسعت على الراقعين من الفقهاء والمطبلين والمزمرين.

والمخرج من هذه الدوامة القاتلة: هو إعادة بناء الجسور بين السلطات الحاكمة، والشعوب المقهورة المحكومة، وذلك بمنح الفقهاء حرية الاجتهاد والفتوى، من أجل استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الصحيحة دون تصحيف أو تحريف، وحينذاك ستثق الجماهير بالفقهاء، وإذا حصلت الثقة سيصبح الفقهاء جسراً يصل بين الشعوب وحكامهم دون عنفٍ من الشعوب، أو إرهابٍ من الحكومات، وبذلك سينتقل الفقهاء من بين المطارق الحكومية؛ والسندان الشعبي إلى مواقع القرار الرسمي والشعبي، وبذلك سوف يقومون بالدور المرجو منهم شرعياًّ وسياسياًّ واجتماعياًّ واقتصادياًّ ومادياًّ ومعنوياًّ.


للاستماع للقسم الأول من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا

للاستماع للقسم الثاني من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا

للاستماع للقسم الثالث من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا

 


وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الأول: اضغط هنا

وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الثاني: اضغط هنا

 

وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الثالث: اضغط هنا

 

وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الرابع: اضغط هنا

وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الخامس: اضغط هنا

وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم السادس: اضغط هنا