مأساة المخطوطات العربية والإسلامية بين إهمال العرب والمسلمين واهتمام الآخرين
المكتبة الوطنية البريطانية مثالاً
المكتبة الوطنية البريطانية مثالاً
الدكتور محمود السيد الدغيم
باحث في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية –جامعة لندن
تشكل الكتب العربية المخطوطة أوعيةً تحفظ تراث الشعوب العربية الحضاري، ورغم أهمية المخطوطات فإنها لم تنل حقَّها من اهتمام المعنيين بها، ولو قارنا بين بين اهتمام العرب وغيرهم بالمخطوطات لجاء العرب في ذيل القائمة، حيث نجد الأمم الحية والميتة قد اهتمت بمخطوطاتها صِيانةً وفَهْرَسَةً، وتحقيقاً ونشراً، ولم يتوقف اهتمام الأمم الحيّة عند حدود الاهتمام بمخطوطاتها بل اهتمت بمخطوطات الشعوب الأخرى، ومَنْ يستعرض أوضاع المخطوطات يجد أن المخطوطات الإسلامية تأتي في مقدمة المخطوطات العالمية من حيث العدد والتنوع، وهي تشمل معظم لغات شعوب الأمة الإسلامية، وتتفاوت أعداد مخطوطات الشعوب الإسلامية بحسب لغاتها، وأكثر تلك المخطوطات عدداً قد كُتِبَ باللغة العربية، وتليها التركية والفارسية والأوردية والملاوية وغير ذلك من لغات المسلمين في آسيا وإفريقيا وأوروبا.
إنّ مَن يستعرض المعلومات المتوفرة عن مكتبات التراث المخطوط يجد أنّ المخطوطات العربية محفوظة في المكتبات الأجنبية الإسلامية وغير الإسلامية، وقد تنبهت الأمم الحية إلى أهمية المخطوطات فاقتنتها بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، ومازالت عمليات النهب مستمرة، فعندما تعرضت البوسنة والهرسك للعدوان الصربي الكرواتي نُهبت مخطوطاتها وبيعت في المزادات العالمية، وحلَّ بمخطوطات أفغانستان والعراق نفس المصير المشؤوم، والعاقلُ يحار لعدم اهتمام الحكومات العربية بشراء المخطوطات العربية التي تُهرَّب، وتُعرض للبيع في المزادات العالمية أو في أسواق التحف والعاديات، ورغم أن معهد المخطوطات العربية في القاهرة قد تأسس بناءً على قرار مجلس جامعة الدول العربية في 4/4/1946م فإن منجزات المعهد مازالت متواضعة وهزيلة قياساً على ما حققته بعض المؤسسات الأجنبية، فمنشورات المعهد من الكتب التراثية المحققة لم تتجاوز الثلاثين كتاباً، وأفضل ما أنجزه المعهد هو المجلة وأخبار التراث، أما محفوظاته المصورة على الميكروفيلم والميكروفيش فقد أصبحت متخلفة بلغة العصر الرقمية.
المكتبة الوطنية البريطانية العامة
مدينة لندن مدينة تجمع بين المحافظة والمعاصرة بامتياز، وتحتضن متاحفُها ومكتباتُها التراث العريق والإبداع المعاصر، ويتعانق الماضي مع الحاضر تحت رعاية حكومية وشعبية واعية، وتُعتبر المكتبة الوطنية البريطانية درة تاج المخطوطات والمطبوعات في بريطانيا حيث تتوسط بناءها مكتبة الملوك.
افتُتِحَ المتحف البريطاني سنة 1753م، وضم المتحف دائرةً للمطبوعات، ثم افتتحت مكتبة تراثية هي مكتبة المتحف البريطاني التي اعتنت باقتناء المخطوطات والمطبوعات الشرقية والغربية، وبعد ذلك افتتحت مكتبة مكتب الهند سنة 1801م ضمن إطار شركة الهند الشرقية التي بدأت نشاطها سنة 1600م، واهتمت هذه المكتبة باقتناء مخطوطات ووثائق مكتب الهند، وكانت المكتبتان منفصلتين عن بعضهما سابقاً حيث كانت مخطوطات مكتبة المتحف في المتحف البريطاني، ومخطوطات مكتب الهند في بناء آخر قرب نهر التايمز، وبعد بناء المكتبة الوطنية البريطانية في شارع يوستون في محلة "سانت بانكراس" بلندن تَمَّ جمعُ مخطوطات المكتبتين فيها إلى جانب محتويات مكتبات أخرى، والبناء الجديد يقع بين محطة قطارات وحافلات كنغزكروس، ومحطة قطارات وحافلات يوستون، ولا تقتصر مقتنيات المكتبة البريطانية على مقتنيات المكتبتين المذكورتين بل تضم مقتنيات العديد من المجموعات التي كانت مستقلة سابقا، ومنها مخطوطات الجمعية الملكية والكثير من المعاهد البريطانية.
قدمت الحكومة البريطانية سنة 1974م مبلغ 6 ملايين جنيه إسترليني من أجل بناء المكتبة البريطانية، وبعد جمع الأموال اللازمة استمر العمل سنوات، ثم افتتحت ملكة بريطانيا وإيرلندة المكتبة سنة 1998م، ويعمل في المكتبة أكثر من 1600 موظف، وفيها أكثر من ستة ملايين كتاب بين مخطوط ومطبوع، وملايين الوثائق والصحف والمجلات، وتتوفر فيها أفضل الخدمات للباحثين في كافة مجالات العلوم والفنون الإنسانية.
تتفاوت أوضاع مخطوطات المكتبة الوطنية البريطانية، فمنها ما هو معروف ومتداول، ومنها ما هو محفوظ لم يفهرس، ولم تُتح فرص الاطلاع عليه بعد، ومنها مقتنيات جديدة تحت الصيانة والفهرسة، ولذلك لا يمكننا إعطاء رقم دقيق حصري بما تقتنيه من مخطوطات عربية وغير عربية، ولكن المعلومات المنشورة المتوفرة تفيد أن عدد المخطوطات الشرقية يقارب 23500 مخطوط.
وتتنوع مخطوطات المكتبة البريطانية فمنها ما هو عربي الخط أعجمي اللغة، ومنها ما هو عربي اللغة أعجمي الخط، وتأتي المخطوطات العربية الخط واللغة في مقدمة مقتنيات المكتبة البريطانية، إذ يُقدَّر عددها بعشرة آلاف وست مائة مخطوطة، وتليها المخطوطات الفارسية ثم العثمانية التركية ثم الأوردية و السريانية والعبرية والبرديات المصرية، وتوجد عشرات المخطوطات ببعض اللغات الشرقية مثل لغة الملايو والسند والبنجاب والبشتون والسواحلية وغيرها، وتوجد في المتحف البريطاني عشرات آلاف الرّقم الفخارية والطينية باللغات المسمارية بعضها معروض، وأكثرها في المخازن.
تتعدد مصادر المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية البريطانية، فبعضها كتب في البلاد العربية، وبعضها كتب في البلدان الإسلامية من الأندلس غرباً حتى إندونيسيا شرقا، والجامع المشترك بين تلك المخطوطات هو العلوم الإسلامية، واللغة العربية، أو الخط العربي، وتتنوع موضوعات المخطوطات لتغطي كافة العلوم والفنون الإنسانية الدينية والدنيوية.
لقد اهتم الإنكليز بفهرسة مخطوطات مكتبة المتحف البريطانية، وقد أعد ريتش فهرس المخطوطات التي اقتنتها المكتبة لغاية سنة 1825م، وطبع الفهرس ما بين سنتي 1846 و 1871م، وتتابع الاهتمام الإنكليزي بفهرسة مخطوطات مكتبة المتحف وغيره، وتتابع صدور الفهارس - في أربع مجلدات وكشاف - من سنة 1877م حتى سنة 1991م، وتعتني - بشكل مستمر - مجلة المتحف البريطاني بنشر معلومات حول المخطوطات التي لم تُفهرَس، والتي يَتِمُّ اقتناؤها، وتوجد في المكتبة فهارس لم تتم طباعتها، وإنما هي مسودات أو نسخ فريدة مكتوبة على الآلة الكاتبة، بالإضافة إلى بطاقات الأرشيف الورقية والإليكترونية التي أصبحت متوفرة على شبكة الإنترنت، وتصدر المكتبة البريطانية تقريرا سنوياً يتضمن معلومات عن جديد المكتبة.
وعلى صعيد اهتمام العرب بالمخطوطات المهاجرة يعتبر الراحل أحمد تيمور من الرواد العرب الذين اهتموا بالمخطوطات العربية حيث كتب سنة 1919م مجموعة مقالات حول نوادر المخطوطات في مكتبات لندن وأُكسفورد، وقد كتب عبد الله يوسف الغنيم كتابا عن المخطوطات الجغرافية في المتحف البريطاني، ونشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت سنة 1974م، وبعد ذلك بسنة أعدَّ سامي حمارنة فهرس المخطوطات العربية في الطب والصيدلة المحفوظة في المكتبة البريطانية ، وعددها 380 مخطوطة، ونشرته دار النشر للجامعات في القاهرة 1975م، وفي سنة 1980م نشرت دار المختار بدمشق مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني من إعداد حسين عبد الله العمري.
تضم المكتبة الوطنية البريطانية عددا وافراً من المخطوطات النادرة تشمل الكتب الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية، وعلى رأسها مخطوطات التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، ثم كتب الآداب والعلوم الدينية، وتوجد من القرآن الكريم مخطوطات بالخط الكوفي أحدها منسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه، وبعض مخطوطات القرآن الكريم مكتوب على رُقوق جلد الغزال، وأكثرها مكتوب على الورق بكافة أنواعه.
وإلى جانب مخطوطات الكتب الدينية توجد مخطوطات التاريخ والطبقات مثل العقود اللؤلؤية في أخبار الدولة الرسولية لعلي الخزرجي، ورقم هذه المخطوطة 710 في محفوظات المكتب الهندي، وكتاب تحفة المجاهدين، ورقمه 714 – المكتب الهندي، وهو يؤرخ لظهور الإسلام في مليبار، وما تبع ذلك، ومخطوطة عجائب المقدور في نوائب تيمور لابن عربشاه ت: 854 هـ/1450م، ورقم المخطوط 711، ويقع في 99 ورقة، وتوجد مخطوطات في الفلسفة والمنطق ومنها الترغيب في كشف رموز التهذيب تأليف محيي الدين الكافيجي الحنفي ت: 879 هـ/1474م والإشارات والتنبيهات لفخر الدين الرازي توجد منه عدة نسخ، كما توجد مخطوطة شرح الإشارات لقطب الدين الرازي التحتاني، وتوجد مجموعة من مخطوطات التصوف للغزالي وعبد القادر الجيلاني والنفري وغيرهم.
وتوجد مخطوطات أدبية منها ديوان أبي تمام ويقع في 212 ورقة، وديوان المتنبي ويقع في 155ورقة، وكتاب الدرة المكللة في فتوح مكة المبجلة لأبي الحسن البكري، ويقع في 98 ورقة، وتوجد نسخة من كتاب ألف ليلة وليلة، وتقع في 128 ورقة، وتوجد مخطوطات في علم العروض والبلاغة والنحو العربي والمعاجم، وإلى جانب المخطوطات المفردة لعنوان خاصّ مُعين توجد المجاميع التي تضم عشرات العناوين للكتب الصغيرة والرسائل.
وتوفر المكتبة البريطانية الخدمات للباحثين البريطانيين والأجانب على حدٍّ سواء، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً، وتمنح المشتركين بطاقات خاصة لدى إبرازهم مايثبت شخصيتهم العلمية، ومنح البطاقة لا يستغرق أكثر من ربع ساعة، ومن أراد الاطلاع على فهارس المكتبة عن بُعدٍ يمكنه ذلك من خلال الموقع الإليكتروني الخاص بالمكتبة على الرابط التالي : اضغط هنا
عنوان المكتبة البريطانية
The St Pancras building
The British Library Box Office
96 Euston Road
London
NW1 2DB
United Kingdom
Tel: +44 (0)20 7412 7222
Fax: +44 (0)20 7412 7340
اضغط هنا
0000000
المقال منشور في ملحق تراث في جريدة الحياة بلندن يوم السبت 14- 8- 2004م على الرابط التالي : اضغط هنا
الصفحة بصيغة مصورة : اضغط هنا
المخطوطات العربية في العالم
الدكتور رضوان السيد، استاذ في الجامعة اللبنانية الحياة 2004/08/14م
////////////////////////////////
شهدت العقود الأولى من القرن العشرين ظهور وفهرسة المجموعات الكبرى للمخطوطات العربية في العالم, في أوروبا أولاً, ثم في البلدان العربية والإسلامية. اما النصف الثاني من القرن العشرين, فقد كثرت فيه الدراسات حول تلك المخطوطات, وجرى التركيز على المكتبات الخاصة, واكتشاف النوادر, وتطورات الخطوط, ومواطن التركيز, وصولاً الى الفهرسة الشاملة في موضوعات محددة (مثل مخطوطات القرآن الكريم, أو مخطوطات الحديث أو مخطوطات طب العيون... الخ) - ومنذ سنوات هناك محاولات من أجل فهرس شامل لكل المخطوطات العربية المعروفة في العالم. والمعروف ان أقدم المحاولات للإطاحة بالتراث المكتوب بالعربية قام بها محمد بن اسحاق النديم (-370هـ) في كتابه الفهرست, وأخير المحاولات على شاكلة ابن النديم, قام بها كارل بروكلمان (1956) في تاريخ التراث العربي. والمحاولتان رائعتان وقاصرتان في الوقت نفسه. فابن النديم عاش في القرن الرابع الهجري, وآخر المؤلفين الذين ذكرهم يعودون للعام 350 هـ, بينما امتد مفهوم التراث المخطوط الى القرن الثالث عشر الهجري, وفي بعض النواحي الى أوائل الرابع عشر. اما بروكلمان الشامل والهائل فقد فاته الكثير, كما أخطأ في الكثير, لأنه في كثير من الأحيان ما كان يرى المخطوط الذي يذكره, كما لم يتمكن من التحقق من صحة ما ذكره الآخرون عنه. بيد ان منهج الرجلين - على تباعد الزمان بينهما - واحد. البدء بتقسيم الفنون التأليفية او "تقسيم العلوم", ثم السير في ذكرها فناً فناً مؤلفين ومؤلفات.
هذا الجهد البيبليوغرافي الذي نعرف الريادة فيه لابن النديم, استمر وتطور في الثقافة العربية - الاسلامية. لكنه قبل ابن النديم وبعده اختلط بالبيوغرافيا, اي كتب التراجم والتأليف فيها. وكتب التراجم تهتم بالمؤلفين في فن واحد أو فنون عدة. ومع انها قد تشمل العلماء وغيرهم من المشاهير. ومع انها تهتم بأحداث حياتهم وآرائهم البارزة في الدرجة الأولى, لكنها تذكر في اغلب الأحيان مؤلفاتهم, وإن ليس بقصد الاستيفاء شأن ابن النديم. وبين كتّاب التراجم وراقون وعشاق للكتاب مثل ياقوت الحموي وابن طاووس. وهؤلاء كانوا يحرصون مثل ابن النديم على رؤية الكتاب ووصفه, اي تتبع اجزائه, وذكر مضامين تلك الاجزاء باختصار, والحرص على ذكر النسخة التي يملكونها عن الكتاب. بيد ان حاجي خليفة صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" فاق الجميع بالاصرار على ذكر مبادرات من مقدمة الكتاب وأحياناً خاتمته, وعاش في القرن الثامن عشر, واعتمد على مكتبات اسطنبول, وذكر نحو الثلث مليون كتاب.
والى جانب هاتين الفئتين: فئة المفهرسين, وفئة البيوغرافيين, هناك فئة ثالثة عُنيت بهذا التراث المخطوط. وهي تتألف من الخلفاء والسلاطين والوزراء والأمراء في سائر الدول الإسلامية. وكان هؤلاء بحكم قدراتهم المادية يهتمون بأربعة أمور: النوادر من كتب القرنين الثاني والثالث للهجرة, والكتب التي بخطوط مؤلفيها من القرون المبكرة ايضاً, والنسخ التي كتبها خطاطون مشهورون من المصاحف ودواوين الشعر, والنسخ الخزائنية التي استنسخوها لانفسهم, أو أمروا بتزيينها فنياً لمكتباتهم. وعندنا أخبار كثيرة وعجيبة عن مكتبات كثير منها, وعن حرصهم فهرسة تلك المكتبات الضخمة, وعن تشبههم بالعلماء بالاصرار على الحصول على اجازة من المؤلف او رواي الكتاب يسجلونها في ورقته الأولى أو في الذيل والخاتمة. ومع ان بعض هؤلاء كانوا ضنينين بالكتب التي يملكونها, ويحرصون على ان لا يراها احد غيرهم, اضافة الى المكتبيين الذين يعملون عندهم, فإن الاكثرية منهم كانت توقف تلك الكتب والذخائر على مكتبات المساجد والجوامع والمدارس, لكي يستفيد منها العلماء وطلبة العلم. ونعرف ذلك بالذات عن سلاطين المماليك وسلاطين العثمانيين, لأن نسخاً وأجزاء من تلك الموقوفات وصلت الينا, وهي محفوظة اليوم في كثير من مكتبات العالم, وفي اسطنبول, ومدن الامبراطورية العثمانية الاخرى.
ويبدأ تاريخ النسخ والخط والكتابة العربية برسائل النبي (صلى الله عليه وسلم) الى ملوك عصره وامرائه يدعوهم الى الإسلام. ونعرف الاخبار عن تلك الرسائل من سيرة النبي (صلّى الله عليه وسلّم), في حين لا يثبت شيء دقيق عن المخطوطات الباقية لتلك الرسائل باستثناء ما يقال عن رسالة النبي (صلّى الله عليه وسلّم) الى هرقل, والتي يرى محمد حميد الله وصلاح الدين المنجد ان المخطوطة الباقية لها اصلية وصحيحة. اما الواقعة الثانية عن القرن الهجري الاول, فتتعلق بالمصاحف الأربعة والستة, التي تذكر المصادر ان أمير المؤمنين عثمان بن عفان أمر بنسخها على رقوق, ووزعها على الأمصار. وهناك نسخ منتشرة ومعروفة اليوم من هذا المصحف, لا يصحح الباحثون نسبة شيء منها الى عهد عثمان, لكن ثلاثة من تلك المصاحف, ربما تعود الى القرنين الثاني والثالث فعلاً. وكذا المر مع الرقوق القرآنية التي وجدت بجدار جامع صنعاء الكبير, والتي يبدو انها تعود ايضاً الى القرنين الثاني والثالث. وعندنا برديات تتضمن رسائل إدارية مصرية تعود الى أواخر القرن الاول الهجري.
على ان الموروث الهائل المخطوط يبدأ بعد ان عرف العرب صناعة الورق عن الصينيين اواسط القرن الثاني الهجري / أواسط الثامن الميلادي. ووصلت الينا عشرات من المخطوطات من القرن الثالث, ومئات من القرن الرابع, وآلاف من القرن الخامس. ثم يسيل السيل منذ القرن السادس الهجري وحتى الثالث عشر, كما سبق ذكره.
ابن النديم الذي كان مغرماً بالعلوم البحتة والتطبيقية, وبالترجمات, يقيم توازناً بين المؤلفات العلمية هذه, والاخرى الدينية والأدبية. فمن بين الآلاف العشرة التي ذكرها في كتابه, هناك خمسة آلاف منها في العلوم والطب والفلك والكيمياء والسيمياء والرياضيات والفلاحة والجغرافيا الفلكية, ونحو الخمسة آلاف في علوم القرآن الكريم والتفسير والحديث والفقه والشعر واللغة والأدب والقصص. اما الباقي في مكتباتنا ومكتبات العالم اليوم فليس فيه هذا التوازن النديمي. فمن بين الثلاثة ملايين مخطوط تقريباً هناك نحو الثلثين في الفقه والعلوم الدينية واللغوية والأدبية, والثلث الباقي في شتى الفنون الاخرى. ويبدو ان ذلك ليس المصادفة, بمعنى ان المخطوطات العلمية ما تعرضت للتلف اكثر من الكتب الاخرى, بل لأن الناس كانوا مهتمين بالنسخ والتأليف ونقل العلوم الدينية واللغوية اكثر من المخطوطات الرياضية او الفلكية التي كانت من شأن النخب. والدليل على ذلك مثلاً ان كتب الفقه (التي تهم الناس في حياتهم اليومية) اكثر بكثير من مخطوطات تفسير القرآن الكريم.
وما كان هناك إحصاء تقديري لكل ما كتب بالعربية في العصور الكلاسيكية والمتأخرة. وهناك من يصل بالعدد الى العشرة ملايين او الخمسة عشر مليوناً. لكن ذلك كله تخمين. وأرى انه صار ممكناً الآن بسبب الكومبيوتر, القيام بالاحصاء التقديري من خلال المصادر البيوغرافية والبيبليوغرافية. واذا كانت بعض التقارير التي يطمأن اليها تذكر انه كان في مكتبات الفاطميين او آل عمار في طرابلس او الحكم بن هشام بالاندلس مئات الألوف او الملايين من المخطوطات, فلا ينبغي فهم ذلك على ان هذا العدد للعناوين, بل للكتب في شكل عام. وقد تكون للكتاب الواحد أكثر من نسخة, كما ان الكتاب يقع في العادة في اجزاء عدة. وقد تلفت ملايين المخطوطات في الاحداث والكوارث السياسية والطبيعية مثل غزو هولاكو لبغداد, او إتلاف الاسبان للكتب في الأندلس. لكن لا شكفي ان اكثر الكتب التي تلفت وزالت إنما تم ذلك بالفناء الطبيعي, وعدم قدرة الورق على الصمود في ظروف الطقس, او بسبب الاهمال وعدم العناية. اما المخطوطات الباقية الى اليوم, والبالغة نحو الثلاثة ملايين, فمن شبه المؤكد انها لا تزيد عناوينها على الربع مليون, والباقي في مكررات. فقد نجد عن شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك مئة مخطوطة او اكثر, وكذا من بعض الحواشي على كتب الفقه الحفظي, التي كانت مقررات على الطلبة في العصر العثماني.
ولا شك في ان اكبر عدد من المخطوطات العربية اليوم هو في مكتبات اسطنبول وتركيا في شكل عام. وتأتي بعدها مكتبات ايران ومصر واليمن والمغرب وسورية وموريتانيا والهند والسعودية وتونس والعراق. وفي مكتبات ألمانيا نحو المئة ألف مخطوط إسلامي, تزيد المخطوطات العربية على ثلثيها. والاعداد كبيرة جداً في المكتبة الوطنية في باريس والمتحف البريطاني وايطاليا, وهولندا, واسبانيا, والنمسا, وبعض مكتبات الجامعات في الولايات المتحدة. واجتمعت لدى الأوروبيين هذه المخطوطات من وراء شراء القناصل لها في القرن التاسع عشر, او من جراء شرائها. وهناك فهارس جديدة لاكثر تلك المجموعات الآن. وهناك مجموعات خاصة كبيرة وغير معروفة جيداً, لكن ليس فيها جديد كثير. فقد جرّبت ذلك في اليمن وموريتانيا حيث ظل نسخ الكتب في خطوط العلماء والطلبة جارياً الى زمن قريب. ومن بين ست مجموعات خاصة باليمن وجدت ثلاثة كتب غير معروفة في المكتبات المفهرسة" بينما وجدت في اربع مجموعات بموريتانيا كتابين فريدين فقط.
مصوّرات معهد المخطوطات العربية: غنى التنوع ونفاسة الاختيار///////////////
فيصل الحفيان ////////// الحياة 2004/08/14م/////////////
في العام الذي ولد فيه معهد المخطوطات العربية (1946) فتحت صفحة جديدة من كتاب التراث العربي, وهي صفحة لا تزال مفتوحة, يضاف إليها كل يوم سطر جديد ولعل اهم ملامح هذه الصفحة هي فكرتها التي استشرفت المستقبل, وانطلقت من الإيمان بضرورة جمع التراث العربي المخطوط من كل مكان في العالم, والحفاظ عليه من طريق تصويره (على ميكروفيلم, وكان في حينه طفرة في اوعية المعلومات) ثم إتاحته للعلماء والباحثين. ومنذ ذلك العام وحتى العام الذي نحن فيه, 2004, يكون عمر المعهد بلغ 58 عاماً. وحصيلة هذا العمر تزيد على خمسين ألف مخطوطة, وتتميز بأمرين جملناهما في العنوان: غنى التنوّع, ونفاسة الاختيار.
وقبل ان ندخل في التفاصيل نلفت مجدداً الى ان مجموعة المعهد كلها "مصورات ميكروفيلمية". وقد يجد بعضهم في ذلك ما يقلل من قيمتها, فهي ليست اصولاً, اصولها في مكتبات العالم, لكن في مثل هذه النظرة عجلة وقفزاً على بدهية علمية, مفادها ان المخطوط, اي مخطوط يستمد قيمته من امرين: ذاته بصفته اثراً مادياً, يرجع الى زمن ما, ويحتفظ بخصائص ذلك الزمن وملامحه, ويرتبط بمؤلفه او كاتبه, ويتميز بطريقة زخرفته وألوانه... الخ, ومحتواه العلمي, اي الفكر الذي يحمله, والفرع المعرفي الذي ينتمي إليه: لغة, او أدباً, او تاريخاً, او فلسفة, او ديناً او علماً, او خليطاً من اكثر من فرع. في الحال الأولى المخطوط مطلوب بذاته (حيّاً) ورقاً وجلداً وخطّاً ومداداً وألواناً.
وفي الحال الثانية, يُتجاوز ذلك كله, ويركّز على مادته العلمية. وعندها لا يهم ان تطلـــع عليه في وعائه الأصلي (الكتاب) او تستعرض صفحاته على جهاز قارئ للميكروفيلم, او تضع قرصه المدمج (CD) في جهاز كومبيوتر, لتقرأ محتوياته على الشــاشة, او ان تكتفي بصورة ورقية مأخوذة من الأصل مباشرة او من الميكروفيلم او من القرص. نعم ان المخطوط الأصلي مجال لدراسات عدة تتصل بعلم المخطوطات او ما يسمى الكوديكولوجيا, وعلم تاريخ النصوص, والبيبليوغرافيا, لكن ذلك كله - على اهميته - لا يقلل من اهمية دراسة النص نفسه, بل ربما كانت دراسة النص فيلولوجياً هي الغاية العليا التي كثيراً ما توظف كل الدراسات السابقة من اجلها.
وعلى اي حال فإن لمجموعة "المعهد" اذا ما تجاوزنا ما قلنا آنفاً خصوصية, تضيف إليها قيمة او قيماً, ويمكن إجمال هذه القيم في النــقاط التاليـــة:
1- تنوع مصادرها فإذا كانت المجموعات الأخرى التي تحتفظ بها المكتبات الوطنية في البلاد العربية جمعت من دائرة جغرافية محدودة, هي دائرة البلد (الدولة) ولم تتجاوزها إلا نادراً, وفي حدود ضيقة, فإن مجموعة المعهد تقوم اساساً على "الجمع" من مصادر عدة ودوائر جغرافية متسعة, تشمل معظم ارجاء العالم, عربياً وإسلامياً وخارج هاتين الدائرتين.
2- شمولها مختلف العلوم العربية والإسلامية. فإذا كانت بعض المجموعات (ولا اقول كلها) يغلب عليها طابع معرفي ما, كأن تكون في علوم الدين مثلاً, أو الفقه, أو التصوف تحديداً أو اللغة أو الأدب, فإن مجمـــوعة المعهـــد تشـــمل كل علوم التراث: اللغة والأدب والـــتاريخ والفلـــسفة والسياسة والتربية والفلك والرياضيات والجغرافيا والطب.
3- نموها المستمر, وحياتها المتجددة بالتزويد عقوداً ستة. إن بعثات المعهد جابت الأرض شرقاً وغرباً, ومكثت هنا وهناك ما مجموعه سنين. نعم مرت سنوات تعطلت فيها الحركة, لكن اي توقف لم يدم طويلاً.
4- ارتفاع قيمتها ونفاستها, نظراً لكونها مجموعة منتقاة على وفور اسس دقيقة ومعايير نفاسة, ترجع مرة الى التاريخ (القدم) وثانية الى الموضوع, وثالثة الى الندرة, ورابعة الى المؤلف وأصالته.
5- وأهم من ذلك ان بعض ما تضمه مما صورته البعثات مبكراً, فُقدت اصوله, إما بالتلف, نتيجة الإهمال والتقصير في المكتبات الرسمية العربية, وقلة الوعي وعـــدم الخـــبرة في الصيـــانة والترمــــيم في المكتبات الخاصة. وإما بالاستيلاء كما في حال المكتبات الفلسطينية التي نهبت اسرائيل كثيراً من مخطوطاتها, وضمتها الى مكتبة الجامعة العبرية.
6- وأخيراً (لا آخراً) ذلك الغنى (المستتر) المتمثل في تلك المجموعات الصغيرة من المخطوطات التي يحملها الباحثون المترددون على المعهد من كل مكان ويهدونها الى خزانته إهداء, او في مقابل ما يصوره لهم ويقدمه إليهم من خدمات.
إن الحديث عن "مجموعة المعهد" لا بد من ان تستدعي الى الذاكرة, اسماء اولئك الأعلام الذين جمعوها وانتقوها وبنوها من امثال: د.صلاح الدين المنجد ومحمد رشاد عبدالمطلب ود.عبدالفتاح محمد الحلو وعصام محمد الشنطي ود.محمود محمد الطناحي, وقبل هؤلاء د.يوسف العش اول مدير للمعهد. ولن ننسى محمد بن تاويت الطنجي.
والعش هو الذي وضع نواة مجموعة المعهد, فقد جاء مديراً من المكتبة الظاهرية بدمشق, ومد نظره اولاً الى البلد المضيفة للمعهد (مصر), والى البلد التي اتى هو منها (سورية), فأوفد بعثة الى "الظاهرية", و"الأحمدية" بحلب, وبعض المكتبات الخاصة في حلب ايضاً (مكتبة الشيخ ناجي الكردي, والأستاذ زين العابدين), كما بدأ بتصوير مجموعات من مخطوطات دار الكتب المصرية والتيمورية وطلعت وحليم والجامع الأزهر. كان ذلك في العام التالي لعام إنشاء المعهد, 1947. وفي العام التالي توجهت بعثة الى الاسكندرية, انتقت من مخطوطات مكتبة البلدية وجامع ابراهيم باشا, وأخرى الى سوهاج صورت من مكتبة المجلس البلدي التي هي بقايا مكتبة رفاعة الطهطاوي, ومن مكتبة جمال الدين بدر ببلصفورة.
وانداحت الدائرة, وكانت المحطة الثالثة, تركيا, واسطنبول تحديداً, وكان عام 1949 فتحاً, فقد صور المعهد نحو ثلاثة آلاف مخطوط, انتقاها من نحو خمسين مكتبة في اسطنبول, ومكتبتين في مدينة بورصة, هما مكتبة حسين جلبي, وخراجي زادة, وتعد هذه اكبر مجموعة من مكان واحد, تليها مجموعة اخرى صورها في عامي 1951 و1952 من الهند.
وتوالت البعثات الى فلسطين (القدس تحديداً) قبل النكبة (1953), ومنها الى بيروت, ثم في عام 1955 الى السعودية, ثم تونس 1956, ومرة اخرى انطلقت البعثات داخل مصر 1957. لتصور من الجامع الأحمدي بطنطا, والبلدية بالمنصورة, والمعهد الديني بدمياط.
وشهد عام 1957 اول انطلاقة خارج الدائرة العربية والإسلامية, فقد توجه د.المنجد الى الأمبروزانا بميلانو (ايطاليا), وصور مجموعة من مخطوطاتها النادرة.
بعد ايطاليا جاءت اليمن الشمالي والمغرب الأقصى وإيران, ثم مرة اخرى تركيا, فإسبانيا, فالمغرب ثانية, فليبيا, فالسعودية ثانية, فإيران مجدداً, فاليمن (الجنوبي) ايضاً, ثم الاتحاد السوفياتي (سابقاً), وتونس, واليمن الجنوبي مرة اخرى, ثم اليمن الشمالي, ثم سورية ثم يوغوسلافيا, ثم ايطاليا, وأخيراً موريتانيا, والمغرب ولبنان, في عامين متتالين.
إن هذه الحركة الدائبة في اتجاهات عدة تعكس غنى ثروة المعهد من المخطوطات وتنوعها وقيمتها, ولن نستطيع ان نستعرض العناوين كما استعرضنا المصادر, لكن تنوع المصادر يشي بتنوع العلوم وامتدادها على مساحة التراث كله. ومن المفيد ان أشير الى بعض العناوين للتذكير: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي, والمغرب في حلى المغرب لأبي سعيد, وشرح فصيح ثعلب للجبّان, ودلائل الإعجاز للجرجاني, والمشوف المعلم في ترتيب اصلاح المنطق للعكبري, والرسالة الحاتمية, وحذف من نسب قريش لمؤرج السدوسي, والصناعتين للعسكري, والسماع لابن القيسراني, والسنن الكبير للبيهقي, وسير الغزاري, والسماء والعالم لابن ابان القرطبي.
وعودة الى خصائص مجموعة المعهد لا زلت أذكر ان مسؤولاً عن احد اهم مراكز المخطوطات في القدس, زار القاهرة, وطلب من المعهد تصوير مجموعة المخطوطات التي صورها المعهد من فلسطين في وقت مبكر, وذلك لأنها غير موجودة الآن في المكتبات هناك.
ومما يذكر ان مخطوطات المعهد تكونت عبر ثلاث مراحل زمنية: الأولى كان المعهد فيها في القاهرة , وهذه استمرت منذ الإنشاء 1946 حتى عام 1979, العام الذي انتقل فيه المعـــهد الى تونـــس, والثانية من عام 1981 إذ انتـــقل المعــهد الى الكويت, حتى عام 1990, والثالثة منذ بداية عام 1991 حيث عاد المعهد الى القاهرة حتى اليوم, وفي هذه المراحل جميعاً خرجت البعثات, وأضــافت الى رصــيد المعهد.
ولم تكن البعثات وحدها هي الدم الذي يضخ في عروقه الحياة, فقد كان للعلاقات والتبادلات دور ايضاً. وفي هذا الإطار ضُمّت الى خزانة المعهد آلاف المخطوطات, من اميركا وإيران وفرنسا وهولندا وانكلترا وإسبانيا, وكذلك من السعودية وسورية والإمارات.
هذه الثروة الكبيرة كان لها دور كبير في فتح اعين الباحثين على التراث, ودفعهم الى الاشتغال به, والانشغال به, على حد سواء, حتى ان كثيراً من كبار الباحثين اليوم الذين كانوا يقصدون المعهد في مرحلة الطلب يعترفون بأنهم ما عرفوا التراث وأحبوه إلا في رحابه.
لقد اثار جمع هذه الثروة مبكراً, وإتاحتها لكل من اراد من الباحثين وطلبة الدراسات العليا, قضية التراث, ولفت إليه, وجعل منه "قضية" محورية. وأساساً لا بد من العودة إليه واستشارته وتوظيفه في مختلف القضايا والإشكالات التي شهدتها الساحة الثقافية في النصف الثاني من القرن الفــائت.
/////////////////////////////////////////////////////
* منسق برامج معهد المخطوطات - القاهرة.