دراسة تاريخية مع الصور:  مدينة صيدا عاصمة الجنوب اللبناني وحاضرته الكبرى

مدينة صيدا عاصمة الجنوب اللبناني وحاضرته الكبرى
د . محمود السيد الدغيم

1
صيدا

تعتبر مدينة صيدا حاضرة جنوب لبنان، ومركزه العلمي والحضاري، وهي مدينة قديمة، ومواكبة لمسيرة التاريخ القديم والحديث، وقد أنجبت عددا كبيراً من العلماء، والسياسيين العظماء، وكان آخرهم الشهيد رفيق بهاء الحريري (1944 - 2005م) وقد قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: صَيداءُ: بالفتح، ثم السكون، والدال المهملة، والمد، وأهله (البلد) يقصرونه، وما أظنه إلاّ لفظة أعجمية إلا أن أصلها في كلام العرب على سبيل الاشتراك، قال أبو منصور: الصيداء: حجر أبيض يعمل منه البِرام جمع بُرمة، وقال النضر: الصيداء: الأرض التي تربتها أجزاة غليظة الحجارة مستوية الأرض، وقال الشاعر الشماخ:
حذاها من الصيداء نعلاً طراقها
حَوامِي الكُراع المُؤيدات العشاوز
أي: حذاها حرة نعالها الصخور، وهي مدينة على ساحل بحر الشام شمال شرقي صور بينهما ستة فراسخ، وقالوا: سميت بصيدون بن صدقاء بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. قال هشام، عن أبيه إنما سميت صيداءُ التي بالشام بصيدون بن صدقاءَ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام.
وطول صيداء تسع وخمسون درجة وثلث، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلثان، وهي في الإقليم الرابع، قال الزجاجي: اشتقاقها من الصَيد يقال: رجل أصيدُ، وامرأة صيداءُ، وهو ميل في العنق من داء، وربما فعل ذلك الرجل كِبراً.

2
موقع صيدا


يقول الإدريسي في كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: ومن مدينة دمشق إلى بيروت يومان كبيران، ومنها إلى مدينة صيداء مثل ذلك، ومن دمشق إلى طرابلس الساحلية خمس مراحل، فأما مدينة صيداء، فهي على ساحل البحر الملح، وعليها سور حجارة، وهي تنسب إلى امرأة كانت في الجاهلية، وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق رخيصة الأسعار، محدقة بالبساتين والأشجار، غزيرة المياه، واسعة الكور، لها أربعة أقاليم، وهي متصلة بجبل لبنان لإقليم يعرف بإقليم جزين، وفيه مجرى وادى الحر، وهو مشهور بالخصب كثير الفواكه. وإقليم السربة وهو إقليم جليل، وإقليم كفر قيلا، وإقليم الرامي، وهو نهر يشق جبالها ويصب إلى البحر.
وجميع هذه الأربعة أقاليم تشتمل على نيف وستمائة ضيعة، وشرب أهلها من ماء يجري إليها من جبلها في قناة، وبهذه المدينة أعني صيداء عينها المعروفة، وذلك أنه ينشأ بها في أيام الربيع سميكات على طول الإصبع سواء، منها ذكور، ومنها إناث، ولها علامات تعرف بها إناثها وذكورها، فإذا كان وقت سفادها أخذت صيداً، ثم تجفف فإذا احتيج إليها أخذت منها واحدة، فتسحق وتستف بالماء، وهذه السميكات صغار على هيئة الوزغ، ولها أيد وأرجل خفية صغار، وقد رأيناها غير ما مرة.
ومن صيداء إلى الْجيّة، وهو حصن على البحر، ثمانية أميال، ومنه إلى حصن القلمون على البحر خمسة أميال، وهذا الحصن على قنطرة، والقنطرة على واد وهي عريضة جداً، وقد بني الحصن عليها، وهو حصن منيع في عطفة جون، ومنه إلى حصن الناعمة وهو كالمدينة الصغيرة سبعة أميال، والناعمة مدينة حسنة، وأكثر نبات أرضها شجر الخرنوب التي لا يعرف في معمور الأرض مثله قدراً ولا طيباً، ومنها يتجهز به إلى الشام، وإلى ديار مصر، وإليها ينسب الخرنوب الشامي، أما وإن كان الخرنوب في الشام كثيراً طيباً، فهو بالناعمة أكثر وأطيب، ومن حصن الناعمة إلى طرف بيروت أربعة وعشرون ميلاً.


2
النسبة إلى صيداء

النسبة إلى صيداء: صيداوي، وهذه نسبة ما لا ينصرف من الممدود، ولو كان مقصوراً لكان صيدوي، كقولهم في ملهى ملهوي، وفي مِرمى مِرمَوِي، ومن أسمائها إربل بلفظ إربل الموصل (العراقية) وذكر السمعاني (في الأنساب) أنه ينسب إليها صيداني بالنون كأنه لحق بصنعاء وصنعاني، وبهراء وبهراني، وقال السمعاني: الصيداني: بفتح الصاد المهملة، والياء الساكنة آخر الحروف، والدال المهملة المفتوحة، بعدها الألف، وفي آخرها النون. هذه النسبة إلى صيدا، وهي بلدة على ساحل بحر الروم، مما يلي الشام، قريبة من صور، وقد ذكر سليمان بن أبي كريمة: إنه نظر إلى عمود، أو حجر مكتوب عليه كتاباً، فلم يُحسِن أن يقرأه، فتعلم بعد ذلك قراءة اليونانية فقرأه، فإذا عليه: بنى - مدينة صيدا - صيدون بن سام بن نوح، وهي رابع مدينة بُنيت بعد الطوفان.

3
علماء صيدا

اشتهر علماء صيدا عبر التاريخ، ومنهم: هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي الصيداوي، وهو من أهل صيدا، ويروي عن مكحول، ونافع. وروى عنه ابن المبارك، والوليد، ووكيع، وشبابة. ومات سنة 156 هـ/ 773م.

قال السمعاني في كتاب الأنساب: والمشهور من العلماء بهذه النسبة: أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن جميع الغساني الحافظ الصيداني، من أهل صيدا، له رحلة إلى ديار مصر والعراق، وبلاد فارس، وكور الأهواز، وأكثر عن الشيوخ بهذه البلاد، أدرك المحاملي ببغداد، وخرَّج له خلف بن أحمد بن علي الواسطي الحافظ معجم شيوخه في خمسة أجزاء حسنة، وروى عنه ابنه الحسن، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن عبد الله الماليني الصوفي، وأبو نصر عبد الرحمن بن أبي عقيل الصوري، وآخر من روى عنه أبو نصر الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب الخطيب الدمشقي، وكانت ولادته سنة 306 هـ/ 918 م، بصيدا، ووفاته قبل 400 هـ/ 1009 - 1010م. وقيل: مات بصيداء في رجب سنة 402 هـ/ 1012م.
وروى عن الصيداوي ابنه أبو الحسن أحمد بن الحسن بن أبي الحسين بن جميع الصيداني، الذي سمع جده أبا الحسين محمد بن أحمد بن جميع وغيره. وسمع منه أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن محمد النخشبي الحافظ، وذكره في معجم شيوخه، وقال: رأيت سماعه في أجزاء من أجزاء جدِّه، وكانت عنده كتب جدِّه باقية بصيدا، وفيها سماع الخلق الذين سمعوا منه، وكتب عنه بصيدا.
وسمع من أبو علي الحسن بن محمد بن النعمان الصيداني، وهو يروي عن بكار بن قتيبة قاضي مصر. وروى عنه أبو الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني، وسمع منه بصور.

ومن المنتسبين إلى صيدا: أبو عبد الله محمد بن المعافي بن أبي حنظلة بن أحمد بن محمد بن بشير بن أبي كريمة العابد الصيداوي، وقد كان زاهداً متعبداً، وكان يفطر كل ليلة على حساء، وكان ذلك طعامه وشرابه. وهو يروي عن معاوية بن عبد الرحمن المرجي، وعمرو بن عثمان، ومحمد بن صدقة الجبلاني وغيرهم. وروى عنه المحدِّث أبو حاتم محمد بن حبان البستي، وأبو بكر محمد بن إبراهيم المقرئ وغيرهما، ومات في حدود سنة 310 هـ/ 922م.

ومن علماء صيدا أبو طاهر محمد بن سليمان الصيداوي، سمع بحمص عبد الرحمن بن جابر الكلاعي. وروى عنه أبو بكر أحمد بن محمد بن عبدوس النسوي الحافظ، وذكر أنه سمع منه في مدينة صيدا.
ومن علمائها أبو جعفر أحمد بن محمد بن جعفر المنكدري الصيداوي. يروي عن محمد بن إسماعيل الأربلي. وروى عنه أبو الحسين بن جميع الصيداوي.

ومحمد بن المعافى بن أبي حنظلة الصيداوي، روى عن محمد بن صدقة الجبلاني.
وروى عنه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، وذكر أنه سمع منه بمدينة صيدا.

وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن طلحة الصيداوي، سمع أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن عبد الرحمن بن طلحة الصيداوي، وسمع أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحلبي بحمص. وروى عنه أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن محمد النخشبي، وقال: سمعته يقول: كان مولدي لخمس بقين من المحرم سنة 352 هـ / 963م.

4
تلاميذ الصيداوي

قال السمعاني في كتاب الأنساب: وروى عن ابن جميع الصيداوي أيضاً عبد الغني بن سعيد الحافظ، وهو من أقرانه، وتمام بن محمد، وأبو عبد الله الصوري، وعبد الله بن أبي عقيل، وأبو نصر بن طلاب، وأبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف بن مردة الأصبهاني، وأبو الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المصري الصواف، وأبو نصر علي بن الحسين بن أحمد بن أبي سلمة الوراق الصيداوي، وأبو الحسين محمد بن الحسين بن علي الترجمان، وأبو علي الأهوازي، وأبو الحسن الجنابي، ابن جميع من الأعيان والأئمة الثقات.

5
الحادي الصيداوي

أورد المحبي ترجمة الحادي الصيداوي في كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، فقال المحبي: محمد بن عبد القادر، المنعوت بشمس الدين، الشهير بالحادي الصيداوي الشافعي، مفتي صيدا، الفاضل الأديب المشهور، له كتاب ألحان الحادي بين المراجع والبادي، وقد وضعه على أسلوب كتاب الحان السواجع للصفدي.

وذكر الصيداوي في ترجمة شيخه الشمس الداودي، أنه ختم عليه قراءة شرح المحلى على المنهاج، فعمل دعوة حضرها جمع من العلماء والأدباء فأنشد بعضهم:
ويوم قد قطعناه سعيدا
لِجِيْد الدهر قد أضحى محلى
بروضٍ زاهرٍ جنبات نهر
ومأكول ومشروب محلى
قطعناه بقرآن وذِكرٍ
وإخوان حَوَوْا أسنى محلى
وكان ختامه مسكاً فقالوا:
كذلك فليكن ختم المحلى
وكان الحادي الصيداوي كثير النظم وله في عمل الألغاز وحلها اليد الطولي ومتى كتب إليه شيء منها حله في وقته وكتب الجواب، ومن شعره:
مريض هواكم مله مَن يعوده
فعصر التداني ماله مَن يعيده
أقمتم على هجري وإني على الولا
مقيمٌ وعندي كُل آنٍ مَزيده
فيا عاذلي ما عاد لي الآن مسمع
بما نالني والصبر حُلَّت عُقوده
وما أنا ممن قد شكى حُكم دهره
بضدِّ الذي يرجو به ويريده
وكان لطيف المحاضرة لذيذ الصحبة ممتع المؤانسة، وكان رؤساء الشأم يميلون إليه جداً، ويعدونه ريحانه الندماء، ويعاشره منهم من تطيب عشرته، وتلين قشرته، ولهم معه نكات تجري بينهم، ومقاصد لا يغضب منها ولا يتألم، ولو كانت سَبًّا. وكانت وفاة الحادي الصيداوي بمدينة صيدا في سنة 1042 هـ/ 1632م.

6
صيدا والشعراء

ذكَرَ الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر أن الشاعر عبد المحسن بن محمد الصوري قد قال:
نام الخليون من حولي فقلت لهم:
ما كل عين لها عين تسهّدها
لا تنكروا عقلتي عامين في يده
فإن صيداء معروف تصَيُّدُها
كأنما أهلها أهل المقيم بها
فذلك الزهد في الأوطان يُبعِدُها

ويقال: مَرَّ أبو الحسن علي بن محمد بن الساعاتي بنواحي صيداء، وهي بيد الأفرنج فرأى مروجاً كثيرة نباتها النرجس، واتفق أنه هرب بعض الأسارى من صيداء فأرسلت الخيل وراءه، فردته فقال ابن الساعاتي:
لله صيداءُ مـن بـلاد
لم تبق عندي بلًى دفيناً
نرجسها حلية الفيافي
قد طبق السهل والحَزونا
وكيف ينجو بها هزيم
وأرضها تنبت العيونا

وذكر بعض الشعراء صيدا فقال:
يا صاحبي رويدا
أصبحت صيداً بصيدا

وقال اللغويون: صَيْدَاءُ: اسم امرأةٍ شَبَّبَ بها ذو الرمةِ الشاعرُ المشهورُ، فقال:
وإِنَّ هَوَى صَيْدَاءَ في ذَاتِ نَفْسِهِ
لِسَائِرِ أَسبابِ الصَّبَابةِ رَاجِـحُ

وقال ابن شاهين، في وصف صيدا: وأما صيدا، فإنها بين البلاد أسد البيدا، وما أدري كيف يذمها بعض الناس، وأهلها يعوّذونها من شرّ الوسواس الخنّاس، ولعمري إنها بلدة لولا حرارة مائها وهوائها، وبرودة أوضاعها وأبنائها، لكانت جنّة المأوى، في الدنيا والآخرى. اللهم إنا نسألك الإنصاف، ونعوذ بك من التعصّب والاعتساف.

ملاحظة: نشر في جريدة الحياة بلندن، ملحق التراث الصفحة : 15، العدد 15313، يوم السبت 5/3/2005م



مناظر مدينة صيدا














 


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16407258
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة