الخنساء : هي تُمَاضِرُ (أي: البيضاء) بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلمي، وتعود أصولها إلى بني سُليم من قيس عيلان بن مضر، من أهالي هضبة نجدة في شبه جزيرة العرب، ولقبها: الخنساء . جريدة الحياة : اضغط هنا
واحة الخنساء أم الشهداء
د. محمود السيد الدغيم
جريدة الحياة : اضغط هنا
1
الخنساء
هي تُمَاضِرُ (أي: البيضاء) بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلمي، وتعود أصولها إلى بني سُليم من قيس عيلان بن مضر، من أهالي هضبة نجدة في شبه جزيرة العرب، ولقبها: الخنساء، والخَنَس: تأخُّر الأنف عن الوجه مع ارتفاعٍ قليلٍ في الأرنبة، والخُنُس: الظباء مفردها ظبية، وموضع الظباء أيضًا، والبقر الوحشي، والخَنْسَاء: مؤَنَّث الأخنس، والبقرة الوحشيَّة. والخَنَّاس: الشيطان لغيابهِ وتنحِّيهُ إذا ذَكَرَ الإنسانُ ربَّهُ، أو لتأخُّرهِ عن العبادة، والخِنَّوسُ: الأسد، والأخنَسُ: القراد والأسد، ومَن به خَنَسٌ، مؤَنَّثهُ خَنْسَاء، والجمع: خُنسٌ.
2
نشأة الخنساء
وُلِدت الخنساء في العصر الجاهلي سنة 575م، وذلك قبل الهجرة النبوية بنحو 47 سنة تقريباً، ونشأت في بيت عزٍّ ورفاه ومكانة اجتماعية مرموقة، فوالدها عمرو بن الحارث من وُجهاء العرب، وكان يفتخر بولديه: صخر المولود سنة 565 م، ومعاوية المولود سنة 570م، ويجاهر بوصفهما: خير أبناء قبيلة مُضر، وكانت الخنساء أصغر من أخويها صخر ومعاوية.
3
إسلام الخنساء ووفاتها
عندما بلغت الخنساء سنَّ الخامسة والخمسين تقريباً قدمت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في وفد السُّلميين الذين أسلموا جميعاً، وأسلمت معهم الخنساء في السنة الثامنة للهجرة الموافقة لسنة 629م، وكان معهم الشاعر العباس بن مرداس بن عامر، وقد وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يستنشدها شعرها، ويُعجبه ويقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده.
ورغم اعتناقها الإسلام بقيت حزينة على والدها وبقية أهلها حتى وَفاتِها حوالي سنة 44 هـ/ 664م، ويقال: إنّها حضرت عرس ابنتها عُميرة في أواخر أيامها، وكانت وفاتها في البادية أثناء خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وبعدما أسلمت خرجت الخنساء مجاهدةً في كثير من الغزوات مع جيوش المسلمين، وسُمِّيت " بأمِّ الشهداء" بعد معركة القادسية.
4
ديوان الخنساء
طبع ديوان الخنساء في المطبعة الوطنية في القاهرة سنة 1297هـ/ 1880م. ثم طبع شرح ديوان الخنساء في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1306 هـ/ 1888م باسم أنيس الجلساء في ديوان الخنساء، و له ذيل أي: ملحق فيه قصائد و مراثي لستين امرأة من نساء العرب مثل ليلى الأخيلية صاحبة توبة الحمير، وغيرها، وقد اعتنى بتلك الطبعة القسّ لويس شيخو. وفي سنة 1313 هـ/ 1896م أصدرت مطبعة اليسوعيين في بيروت شرح ديوان الخنساء للقس لويس شيخو اليسوعي، وقد جمعه وأخذه عن خمس نسخ مخطوطة، و أضاف عليه شروحاً أدبية وتاريخية و جغرافية.
ثم نشر ديوان الخنساء حسنين محمد الزيداني في القاهرة سنة 1326 هـ/ 1908م، ثم صحَّح ديوان الخنساء كرم البستاني، ونشرته دار صادر ودار بيروت للطباعة سنة 1380 هـ/ 1960م، وأعادت طباعته دار صادر سنة 1383 هـ/ 1963م، وفي سنة 1388هـ/ 1968م نشرت دار التراث في بيروت شرح ديوان الخنساء، ثم نشرت الديوان دار الأندلس في بيروت سنة 1389 هـ/ 1969م، ثم صورته دار الفكر ونشرته دون تاريخ.
5
شعر الخنساء
روي أن عدي بن حاتم الطائي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحادثه، فقال: يا رسول الله إن فينا (أي في قبيلة طيّ ) أشعر الناس وأسخى الناس وأفرس الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سمهم". فقال عديّ: أما أشعر الناس فامرؤ القيس بن حجر، وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد (يعني آباه)، وأما أفرس الناس فعمرو بن معد يكرب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس كما قلت يا عدي ،أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو، وأما اسخى الناس فمحمد (يعني نفسه صلى الله عليه وسلم)، وأما أفرس الناس فعلي ابن أبي طالب".
وكانت الخنساء من أشعر نساء العرب، وأشعر من كثيرٍ من الرجال، وكان الشاعر النابغة الذبياني يجلس لشعراء العرب في سوق عكاظ على كرسي، وينشدونه الشعر، فيفضل مَن يرى تفضيله منهم على نظرائه، وذات موسم أنشدته الخنساء من شعرها قصيدتها التي مطلعها:
قذىً بعينيك أم بالعين عوارُ
أمْ أقفرتْ إذْ خَلَتْ من أهلِها الدارُ
فقال النابغة للخنساء: لولا أن أبا بصير (يعني الأعشى) وحسان بن ثابت أنشداني آنفاً لفضَّلتك على شعراء هذا الموسم كلّهم، ولَقُلْتُ: إني لم أسمع مثل شِعرك. وقال النابغة الذبياني: "الخنساء أشعر الجن والإنس".
وقد قيل لشاعر الخلافة الأموية جرير التميميّ: مَن أشعر الناس؟
فأجاب جرير:أنا لولا هذه الشاعرة، يعني الخنساء.
فقيل لهُ: بماذا فَضَلَتْكَ؟
فقال جرير: بقولها:
إنَّ الزمان وما يَفْنَى لهُ عجبٌ
أبقى لنا ذَنَبًا، واستُؤصِل الرَّاسُ
أبقى لنا كلَّ مجهولٍ؛ وفجَّعَنَا
بالأكرمينَ، فَهُمْ هامٌ؛ وإرْمَاسُ
إنَّ الْجَدِيْدَيْنِ في طُولِ اختلافِهِمَا
لا يفسدان، ولكنْ يفسدُ الناسُ
ومن بُكائيات الخنساء في رثاء أخويها صخر ومعاوية قولها:
مَنْ حَسَّ لِي الأَخوينِ كَالْغُصْنَيْنِ أوْ مَنْ رَاْهُمَا
أخوينِ كَالصَّقرينِ لَمْ يَرَ ناظرٌ شَرْوَاهُمَا
قرمَيْنِ لا يتظالَمانِ ولا يُرامُ حِمَاهُمَا
أبكي على أخَوَيّ والقبِر الذي وَارَاهُمَا
لا مثل كهلي في الكهول، ولا فتىً كَفتاهُمَا
6
دريد بن الصمة والخنساء
يروي المؤرخون أن دريد بن الصمة، أتى الخنساء خاطباً، وقد تقدَّمت به السنُّ، فردَّته وقالت لأبيها: يا أبتِ أتراني تاركة بني عمِّي مثل عوالي الرماح، وناكحة شيخ بني جشم، هامة اليوم أو غد، وجرَّاء ذلك هجاها الشاعر دريد بن الصمة، فقيل لها: ألا تجيبينه؟ فقالت: لا أجمع عليه أن أرُدَّهُ وأن أهجوَه.
ولكن خليل بن أيبك الصفدي قال في كتاب الوافي بالوفيات: خطب دريد بن الصمة الخنساء فردَّته، وكان قد رآها تهنأ بعيراً لها، فقال:
حَيُّوا تُماضرَ واربعوا صَحْبِيْ
وقِفوا فإنَّ وقوفَكم حَسبيْ
أَ خُناسُ قد هام الفؤاد بكم
وأصابه تبلٌ مِنَ الْحُبِّ
ولما رفضت الزواج من دريد لكبر سنه قال:
وقالتْ إنني شيخٌ كبيرٌ
وما أنبأتُها أنِّي ابنُ أمسِ
تريدُ شرنبثَ الكفين شثناً
يباشرُ بالعشية كلَّ كُرْسِ
فقالت الخنساء:
معاذ الله ينكحني حبركى
يقال أبوه من جشم بن بكرٍ
ولو أصبحتُ في جشم هدياًّ
إذاً أصبحتُ في دنسٍ وفقرِ
قال ابن منظور في لسان العرب: الحَبَرْكَى: القوم الهَلْكَى، والقراد، والسحاب المتكاثف، والرمل المتراكم، والغليظ الرقبة، والضعيف الرجلين، كأنهُ مقعدٌ لضعفهما، والطويل الظهر القصير الرجلين، وأَلِفهُ للتأْنيث فلا ينصرف. وربما قيل حَبَرْكَى منوَّنًا على أنها للإلحاق، فلا يمتنع من الصرف إلا إذا سُميّ بهِ،
والحَبَرْكاة واحدة الحَبَرْكَى.
وقد عارضت سينية دريد بسينية رثت بها أخاها صخراً حسبما رواه أبو علي القالي في كتاب الأمالي، وقد جاء في معارضتها:
يؤرقني التّذكرُ حين أمسي
ويردعُني مع الأحزان نكسي
على صخرٍ وأيُ فتىً كصخرٍ
ليومِ كريهةٍ وطعان خِلْسِ
وعانٍ طارقٍ أو مُستضيفٍ
يُروَّعُ قلبُهُ من كلِّ جِرْسِ
ولَمْ أرَ مثلَه رُزءاً لجنٍّ
ولم أَرَ مثلَه رُزءاً لإنسِ
ألا يا صخرُ لا أنساكَ حتى
أفارقَ مُهجتي ويُشقَّ رَمْسِي
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلْتُ نَفْسِي
يُذكِّرُنِيْ طلوعُ الشمس صَخْراً
وأذكرهُ لِكُلِّ غروبِ شَمْسِ
وما يبكون مثلَ أخي ولكنْ
أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّيْ
7
زواج الخنساء وأولادها
تزوجت الخنساءُ ابن عمها رُواحة بن عبد العزيز السُّلمي، ولكنه مات عنها ولم تَلِدْ منه، وبعد ذلك تزوجها بعده عبد الله بن عبد العُزى، فولدت له ولدها البِكْرَ عَمْراً، وكُنيته أبو شجرة، وهو وحيد زوجِها الأول، ثم تزوجت ابن عمها مرداس بن أبي عامر السُّلمي، فولدت منه أربعة أولاد هم: يزيد ومعاوية وعمرو وعمرة، ويقال: أن الشاعر العباس بن مرداس، هو أحد أبناء الخنساء، وقد استشهد من أبناء الخنساء مَن استشهد، ومات مَن مات أثناء حياتها، فأضاف فقدهم حزناً إلى حزنها على أبيها وإخوتها، ولم يبق لها في شيخوختها إلا ابنتها عُميرة.
8
الخنساء والخليفة عمر بن الخطاب
قيل إن الخنساء لم تزلْ تبكي على أخويها صخر ومعاوية، حتى أدركت الإسلام، فأقبل بها بنو عمِّها إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذه الخنساء قد قرَّحتْ مآقيها من البكاء في الجاهلية والإسلام، فلو نهيتها لرجونا أن تنتهي.
فقال لها عمر رضي الله عنه: ما قرَّح مآقي عينيك يا خنساء؟
فأجابت: بُكائي على السَّادات من مُضر.
فقال لها عمر رضي الله عنه: حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله، وأيقني بالموت.
فقالت الخنساء: أنا أبكي أبي وخيريَّ مُضر: صخراً ومعاوية. وإني لموقنة بالموت.
فقال لها عمر رضي الله عنه: إن الذي تصنعين ليس من صُنعِ الإسلام، وإنّه لو خلّد أحدٌ لخلّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وقد صاروا جمراً في النار؟
فقالت: ذلك أطول لعويلي عليهم، ثم أنشدتْ شعرًا في ذلك.
فرَقَّ لها الخليفة عمر وقال: لا ألومك يا خنساء في البكاء عليهم، خلوا سبيل عجوزكم، لا أبا لكم، فكلِّ امرئٍ يبكي شجوه، ونام الخليُّ عن بكاء الشجيِّ.
9
الخنساء أم الشهداء
في معركة القادسية
لقد كان جميع أبناء الخنساء رضي الله عنها وعنهم من الشعراء الفرسان، وقد روى الزبير بن بكار بسنده الله عن أبي وجرة عن أبيه قال: حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد حرْبَ القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل:
"إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وَ والله الذي لا إله غيره أنكم لبنو رجُلٍ واحدٍ، كما أنكم بنو امرأةٍ واحدة، ما خُنْتُ أباكم، ولا فضحتُ خالَكم، ولا هَجّنتُ حسَبكم، ولا غيّرتُ نسَبكم، وقد تعلمون ما أعدَّ اللهُ لِلمُسلمين مِن الثواب الجزيل في حرْبِ الكافرين، واعلموا أنّ الدّار الباقية خيرٌ من الدُّنيا الفانية، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة آل عمران، الآية: 200.
فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظىً على سباقها، وجلّلت ناراً على أوراقها، فتيمَّموا وطيسَها، وجالدوا رئيسَها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغُنْمِ والكرامة، في دار الخلد والمقامة".
وبعد خطبة الخنساء خرَج بنوها قابلين لِنُصْحِهَا، عازمين على قولها، فلما أضاء لهم الصُّبحُ باكروا مراكزَهم الجهادية في مُواجهة الفُرس المجوس، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إنَّ العجوزَ الناصحهْ
قد نصَحَتْنا إذْ دَعَتْنا البارحهْ
مقالةٌ ذاتُ بيانٍ واضحهْ
فباكِروا الحربَ الضروسَ الكالِحَهْ
وإنَّمَا تلقونَ عِندَ الصَّائِحهْ
مِنْ آلِ ساسانَ كلاباً نابِحَهْ
قد أيقنوا مِنكُم بوقعِ الْجَائِحَهْ
وأنتم بين حياةٍ صالِحَهْ
أوْ مِيتةٍ تورِثُ غُنماً رابِحَهْ
وتقدم فقاتل حتى استشهد رحمه الله. ثم حمل على الفُرس المجوس أخوه الثاني وهو يقول:
إنَّ العجوزَ ذاتُ حَزْمٍ وَجَلَدْ
والنظرُ الأوفقُ، والرَّأيُ السَّدَدْ
قد أَمَرَتْنَا بِالسّدادِ وَالرَّشدْ
نصيحةً مِنها وَبَرًّا بالوَلَدْ
فَباكِروا الْحَرْبَ حُماةً في العَدَدْ
إمَّا لِفوزٍ باردٍ على الْكَبدْ
أوْ مِيتةٍ تُوْرِثُكُمْ غُنْمَ الأبدْ
في جَنَّةِ الفِرْدوسِ، والعيشِ الرَّغدْ
فقاتل إلى أن استشهد رحمه الله. ثم حمل أخوه الثالث وهو يقول:
واللهِ لا نَعْصِي العجوزَ حَرْفاْ
قد أمرتنا حرباً وعطفا
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً
فباكروا الحربَ الضَّروسَ زحْفا
حتى تلفوا آل ساسانَ لَفَّاْ
أوْ تكشِفوهُمْ عن حِمَاْكُمْ كَشْفَاْ
إِنَّاْ نَرَى التَّقصِيْرَ عنهم ضَعْفا
والقتلَ فيكم نجدةً وعرْفا
فقاتل حتى استشهد رحمه الله. ثم حمل أخوه الرابع وهو يقول:
لَسْتُ لِخنساءَ ولا لِلأحزَمِ
ولا لعمروٍ ذي السَّناءِ الأقدمِ
إنْ لم أرِدْ في الجيشِ، جيشَ الأعجمِ
ماض على الهول خِضمٍّ خضرمِ
إما لفوز عاجلٍ ومغنمِ
أوْ لِوفاةٍ في السَّبيلِ الأكرَمِ
فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ أمهم الخنساء الخبر فقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء أرزاق أولادِها الأربعة بعد استشهادهم، لكل واحد مائتي درهم، حتى قبض شهيداً حينما غدره أبو لؤلؤة المجوسي.
10
أحزان الخنساء وهند
روى أبو الفرج الأصفهاني بسنده في كتاب الأغاني، عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: لما كانت وقعة بدر، قتل فيها عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة؛ فأقبلت هند بنت عُتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخرٍ ومعاوية، وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وقد سَوَّمت هودجها براية، وأنها تقول: أنا أعظم العرب مصيبةً، وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك.
فلما أصيبت هند بمثل ما أصيبت به الخنساء، وبلغها ذلك، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبةً، وأَمَرَتْ بهودجها فسُوّم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سُوقاً يجتمع فيها العرب، فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، ففعلوا. فلما أن دَنَتْ مِنها، قالت لها الخنساء: من أنت يا أُخيّة؟
قالت: أنا هند بنت عُتبة أعظم العرب مُصيبةً، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فَبِمَ تعاظمينهم؟
فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد، وصخرٍ ومعاوية ابني عمرو، وبِمَ تعاظمينهم أنت؟
قالت: بأبي عُتبة بن ربيعة، وعمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد.
قالت الخنساء: أوَ سَواءٌ هُمْ عِندك؟ ثم أنشدت تقول:
أبكي أبي عَمْراً بعينٍ غزيرةٍ
قليلٌ إذا نام الخلي هُجودُها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي
له من سُراة الحرَّتين وفودُها
وصخراً، ومَن ذا مثل صخرٍ إذا غدا
بسلهبة الأبطال قباً يقودُها
فذلك يا هند الرزيَّة فاعلمي
ونيران حربٍ حين شبَّ وقودُها
فقالت هندٌ بنت عُتبة بن ربيعة تجيبها:
أبكي عَمِيْدَ الأبطحين كِلَيْهِما
وحَامِيهِما مِنْ كُلِّ باغٍ يُرِيْدُهَا
أبِيْ عُتبة الخيرات، وَيْحَك فاعلَمِي
وشيبة، والحامي الذّمار وليدُها
أولئك آلُ الْمَجْدِ مِنْ آلِ غالِبٍ
وفي العزِّ منها حين ينمى عِدِيْدُها
11
نهاية صخر السُّلمي
خاض صخرٌ حربَ بني سُليم مع بني أسد، فطعن ربيعةُ بن ثور الأسدي صخراً في جنبه، وفاتَ القومَ، فلَم يقعص، وجوى منها، فمرِضَ حَوْلاً حتى ملَّه أهلُهُ، فسَمِعَ امرأةً، وهي تسألُ امرأته سلمى: كيف بَعْلُكِ؟
فقالت سلمى: لا هو حَيّ فَيُرجى، ولا ميت فينعى، لَقِينا منه الأمَرَّين.
فقال صخر لما سمع ذلك منها:
أرى أُمَّ صخرٍ لا تَمَلّ عِيادتي
ومَلَّتْ سُليمى مَضجعي ومَكاني
وما كُنْتُ أخشى أنْ تكونَ جنازة
عليك ومَنْ يغترّ بالْحدثانِ
لَعمري لقد نَبَّهتِ مَن كان نائمـاً
وأسمعتِ مَن كانت له أُذنانِ
ولَلْمَوْتُ خيرٌ من حياةٍ كأنَّها
مَحلّة يعسوبٍ برأسِ سِنانِ
وإنَّ امرئً ساوى بأمٍّ حليلةً
فلا عاشَ إلاّ في شَقاً وهَوانِ
فلما طال على صخرٍ البلاءُ، وقد نتأتْ قطعة مثل اليد من جنبه من الطعنة، فقالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ فقال: شأنكم، فأَحْمَوْا له شفرةً، ثم قطعوها فمات، فقالت الخنساء ترثيه:
قذىً بعينيك أم بالعين عوارُ
أمْ أقفرتْ إذْ خَلَتْ من أهلِها الدارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرى وقد ثكلتْ
ودُونه من جديدِ الترب أستارُ
لا بُدَّ من مِيتةٍ في صرفِها غِيَرٌ
والدَّهرُ في صرفِهِ حول وأطوارُ
يوماً بأوجد مني يوم فارقني
صخرٌ وللدَّهرِ إحْلاءٌ وإمْرارُ
فإنَّ صَخراً لوالينا وسيدنا
وإنَّ صخراً إذا نشتو لنحارُ
وإنَّ صَخراً لتأتم الهداة بهِ
كأنَّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
مثل الردينيِّ لم تنفذْ شبيبتُهُ
كأنَّهُ تَحْتَ طَيّ الْبُرْدِ أسْوَارُ
12
نهاية معاوية السُّلمي
غزا معاوية السُّلمي بني مُرَّة بن سعد بن ذبيان وبني فزارة، وكان معه خفاف بن ندبة، فاعتوره هاشم ودريد ابنا حرملة الْمُرِّيان، فاستطرد له أحدُهُما، ثم وقف، وشدَّ الآخرُ عليه فقتله، فلما تنادَوا: قُتِلَ مُعاوية، فقال خفاف: قتلني الله إنْ دُمْتَ حتى أثأرَ بهِ. فشَدَّ على مالك الشمخي، وكان سيد بني شمخ فقتله، وقال خفاف في ذلك:
فإنْ تَكُ خَيلي قد أُصِيبَ صَمِيْمُها
فعَمْداً على عيني تيمَّمتُ مالِكا
أقولُ لهُ، والرُّمحُ يأطرُ مَتْنَهُ
تأمَّلْ خفافاً، إنَّنِي أنا ذلِكا
تيمَّمتُ كَبْشَ القوم لَمَّا عَرَفْتُهُ
وجانبتُ شُبَّانَ الرِّجالِ الصَّعالِكا
فجادَتْ لَهُ مِنِّي يَمِيْنِي بطعنَةٍ
كَسَتْ مَتْنَهُ من أسودِ اللونِ حالِكا
ثم قالت الخنساء ترثي معاوية:
ألا لا أرى في الناس مثل معاويةْ
إذا طرقتْ إحدى الليالي بداهيَهْ
بداهيةٍ يضغي الكلابَ حَسِيْسُهَا
ويخرج من سِرِّ النحيّ عَلانِيَهْ
أَلا لاْ أرَىْ كفارس (الْجُونِ) فارساً
إذا ما دَعَتْهُ جُرأة وعلانيهْ
وكان لِزازَ الحربِ عند شُبوبِهـا
إذا شَمَّرتْ عن ساقِها وهي ذاكيهْ
وقواد خيلٍ نحو أُخرى كأنَّها
سَعالٍ وعُقبانٌ عليها زبانِيَهْ
فأقسَمْتُ لا يَنفكُّ دَمْعِي وعولَتِيْ
عَليك بحزنٍ ما دَعا الله داعيَهْ
13
أحفاد الخنساء
ذكر السيوطي في كتابه "نظم العقيان في أعيان الأعيان" أن من سلالة الخنساء شهاب الدين المنصوري، الهائم، أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الدائم بن رشيد الدين بن خليفة بن مظفر السُّلمي، شاعر العصر، الشافعي ثم الحنبلي المعروف بالهائم، من ذرية العباس بن مرداس السُّلمي الصحابي رضي الله تعالى عنه، فبراعته في الشعر نزوع إلى جده. ومن اللطائف أن أم العباس بن مرداس هي الخنساء أخت صخر الشاعرة المشهورة التي أجمعوا على أنها أشعر النساء، فانظر العرق كيف ينزع.
ولد شهاب الدين الهائم سنة ثمان أو تسع وتسعين وسبعمائة للهجرة/ 1396م، بالمنصورة. ورحل إلى القاهرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، فبحث التنبيه على القاضي شرف الدين عيسى الأقفسهي، والالفية على الشيخ شمس الدين الجندي، وبحث عليه كتابه في النحو، الزبدة والقطرة . وقال يمدحه لما فرغ من القراءة:
ثناؤك شمس الدين قد فاح نشرُهُ
لأنك لم تبرح فتىً طيب الأصلِ
أفاضَ علينا بحرُ علمِك قطرةً
بها زال عن ألبابنا ظمأُ الْجَهْلِ
وأخذ النحو أيضاً عن الشيخ شمس الدين القرشي شيخ المدرسة الشيخونية . ثم تحول حنبلياً، وتوظف بالشيخونية. وسمع على الزركشي وغيره. وجمع ديوانه في مجلد ضخم. ومات في سنة سبع وثمانين وثمانمائة للهجرة/ 1482م بعد وفاة السلطان العثماني محمد الفاتح بسنة واحدة. ومن شعره قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
أذكت بروق الحمى في مُهجتي لَهَبا
فانشأت مُقلتي من جفنها سُحُبَاْ
يا نازلين بقلبي طاب منزلُكُمْ
ويا عُرَيْبَ الْحِمى حييتُمُ عربا
جزتم على البان فاهتزت معاطفُهُ
وأرخت الدوحُ من أغصانها عذبا
عجبت كيف سكنتم من محبكم
قلباً خفوقاً من الأشواق مضطربا
وأرحمتاه لعينٍ كلما هجعت
ألقت كَرَاْهَا بكفِّ السّهدِ مُنتهبا
في كل يوم انادي رسْمَ ربعكم
يا ربع ليلى لقد هيجت لي طربا
لا وَاْخَذَ اللهُ أحبابي بما فعَلُوا
مِنَ الصُّدُودِ ولا قلبي بما كسبا
رُدُّوا المنامَ على عينٍ بكم فُجِعَتْ
حتى تكون إلى رؤياكم سببا
إيوانُ كِسرى ترَدَّى يوم مولِدِهِ
وأخمد النورُ من نيرانِهِ اللَّهَبا
ومن شعر الهائم:
إذا سبَّ عرضي ناقص العقل جاهلٌ
فليس له إلا السكوت جوابُ
ألم ترَ أنّ اللَّيْثَ ليس يضيرُهُ
إذا نبحت يوماً عليه كلاب
وقال في ذم الخمر:
عُدْ عن الراح وعن كرعها
كم أغرقتْ عينك في دمعها
وكم أثارت بين أهل الصفا
حرباً توارى الجوّ في نقعها
عداوة الأخوان من شأنها
وفقدُ عقلِ المرءِ من طبعها
قرْبُ رضا الرحمنِ في بُعْدِها
ووَصْلُ عَفوِ اللهِ في قطْعِهَـا
ومرُّها أكثر من طيبها
وضرُّها أكبر من نفعها
ومن شعره قوله في العلم النافع:
لا تجنحنَّ لعلمٍ لا ثواب له
واجنحْ لما فيه اجرٌ غير ممنونِ
أن العلوم ثمارٌ فاجنِ أحسنَها
وأحسن العِلم ما يهدي إلى الدينِ
وقال يشكو الغربة:
إنِّي غدوتُ غريباً
لَمَّا فقدتُ الأحِبَهْ
يا صِدْقَ مَنْ قال قدْماً
فَقْدُ الأحِبَّة غُربَهْ
وقال يحض على التعفُّف:
صُنْ حَرَّ وجهكَ عن إراقةِ مائِهِ
واحفظْ لِسَانِكَ عن سُؤالِ الناسِ
وابْخَلْ بنفسِكَ أنْ تذلَّ لباخِلٍ
فسُؤالُهُ شَرٌّ مِنَ الإفـلاسِ
فلَقد تركتُ تبَسُّم الضَّحاكِ لَمْ
أمْدَحْهُ خوْفَ تقطُّبِ العبَّاسِ
عجباً لآحادِ الورى في مدْحِهِ
إذ يضرب الأخماسَ في الأسداس
فدَعِ الوُقوفَ لَهُمْ وقولَ أديبِهِمْ:
ما في وقوفِكَ ساعة من بَاسِ
وقال في الليل والنهار:
أخوان بينهما أشد تقلُّبٍ
وعلى التقلُّبِ ليس يجتمعان
إنْ طالَ هذا كان هذا قاصراً
فعَلَى إخائِهِمَاْ هُمَاْ ضِدَّانِ
مُتحرِّكٌ هذا وهذا ساكِنٌ
والفرق بينهما وعيشك دانِ
وقال في فضائل العلماء :
أجْدَر الناس بالعلا العلماءُ
فهم الصالحون والأولياءُ
سادةٌ ذو الْجَلال أثنى عليهم
وعلى مثلهم يطيب الثناء
وبهم تمطرُ السَّماء وعنَّا
يُكْشَفُ السوء ويزول البلاء
خشية الله فيهم ذات حصر
أَوَ فِيْ غيرهِم يكونُ العـلاءُ؟
فهم الآمرون بالعرف والناهون
عما يقوله السفهاءُ
وإلى ربهم تقدَّسَ عِزاًّ
فقراءٌ وهم بهِ أغنياءُ
فالبرايا جسمٌ وهُمْ فيه روحٌ
والبرايا موتى وهم أحياءُ
فتعفَّفْ عن لَحْمِهِمْ فهو سُمٌّ
حَلَّ منه الضَّنا وعزَّ الشفاءُ
ملاحظة : نشرت هذه الواحة في ملحق التراث بجريدة الحياة يوم السبت أول رجب سنة 1426 هـ/ 6 ـ 8 ـ 2005م ، العدد : 15466. الصفحة: 15.
جريدة الحياة : اضغط هنا
********