مدينة تفليس عاصمة جورجيا هي مدينة تبليسي بلغة الجرائد العربية المتخلفة
د. محمود السيد الدغيم
مجلة البيان


تـضـم جـمـهـوريـــة جـورجـيــا، جمهوريتان هما جمهورية ابخازيا ذات الحكم الذاتي، وعاصمتها سوخومي(*) ، وجمـهـوريــة آجــاريـــا ذات الحكم الذاتي أيضاً ، وعاصمتها باطوم(**) ، وعدد سكانها "82000" نسمة، كما تـضــم مـقـاطعة أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي، وكان عدد سكان جورجيا بما تضمه من أبخازيا وآجاريا وأوسيتيا، يساوي 4 ملايين نسـمــة أكـثــــر مــن ثلاثة أخماسهم من الجورجيين ، وبقية السكان من الروس والأوكرانيين والأرمن وغيرهم مـــن الشعوب"(1) ولم يشر المؤلف إلى الشعوب الأخرى وهم الترك والآذريون والأبخاز والشركس لأنهم من المسلمين .
لا أحد يستطيع معرفة مستقبل جـورجـيــا هل ستستمر العواصم الثلاث - تفليس وباطوم وسوخومي - في الاتحاد ، أم ستنفصل العـاصمتان الأخيرتان عن جورجيا ، ولا سيما أن الجالية الإسلامية قد عانت القهر المر على أيدي شيوعي الاتحاد السوفييتي المنهار .
تفليس (عاصمة جورجيا) :
يحتل اسم مدينة تفليس مكاناً مرموقاً في وسائل الإعلام بسبب ما تتعرض له من كوارث الحرب الداخلية ، واستعمال وسائل الإعلام لاسم هذه المدينة العريقة متفاوت الصحة ، فبعض وسائل الإعلام تذكرها بصورة صحيحة ، وبعضها يترجم اسم تفليس دون تعريب ، ودون عودة إلى المراجع العربية الصحيحة فيكتبها "تبليسي" ، ونظراً للهوة الفاصلة بين المواطن العربي وتراثه فقد أصبحت تفليس في عداد المدن المنسية ؛ شأنها شأن الكثير من المدن التي اشتهرت عبر تاريخها ، ثم خـبــا ذكرها مع تراجعنا عنها ، حتى أصبحت مجهولة من قِبَلِ قطاع عريض من قراء لغتنا العربية ، وأصبح واجبنا - إزاء ذلك - أن نعرف بها وبماضيها وبعلاقتها بأمتنا عَبْرَ التاريخ .
تعرف هذه المدينة باسم تبليسي (Tiblisi) في لغة الكُرْج وبعض المراجع اللاتينية تذكرها باسم تفليسي (Tphilsi) أما المراجع والمصادر العربية فتذكرها باسم : تفليس(***) ، ما عدا البلاذري أحمد بن يحيى ، المتوفى سـنـة 279 هـ فقد ذكرها في كتابه فتوح البلدان باسم "طفليس" بالطاء وليس بالتاء، وسبب التسمية: ينابيع تفليس الحارة ، فمعنى حار؛ في لغة الكُرْج : تفيلي (Tphili) ، أما الأرمن فيطلقوا عليها اسم : تفخيس (Tpkhis) .
النسبة إلى تفليس :
"التفليسي : نسبة إلى تفليس ، وهي آخر بلدة من بلاد أذربيجان ، مما يلي الثغر ، خرج منها جماعة من العلماء والمُحَدِّثين ، منهم : أبـو بـكــــر محمد بن إسماعيل بن بنون بن السري التفليسي (400 - 483 هـ).. وأبو أحمد حامد بـن يوســف بن أحمد بن الحسين التفليسي ، من أهل تفليس.. وكانت وفاته بعد سنة 484هـ ، ومحمد بن بيان بن حمران المدائني التفليسي ، أصله من تفليس.. وعبد الله بن حماد التفليسي (2)..
وذكر الذهبي ، في سير أعلام النبلاء ، نجم الدين ثابت بن تاوان التفليسي المتوفى سنة 631 هـ (3) . كما ذكر محمد بن اسماعيل السري التفليسي ، المتوفى سنة 483 هـ(4) ، وأسند الذهبي رواية للناتاني تفيد أن الإمام علي بن عبد الرحمن ابن عَلِيَّك النيسابوري ، قَدِمَ تفليس وحدث عن الخفاف ، وتوفي في تفليس سنة 468 هـ(5) والناتاني التفليسي هو أحمد بن عمر بن محمد بن ناتان ، سمع منه شيخ الإسلام أبو طاهر السِّلَفِيَّ (475 هـ -576 هـ) في تفليس سنة 500 هـ(6) .
تفيد القوائم الإحصائية،أن عدد سكان تفليس قد بلغ سنة 1341هـ/1922م، 958.233 نسمة ، منهم 85.309 من الأرمن ، و 80.884 من الكُرج ، و 38.612 من الروس، و9.768 من اليهود، و 3.984 من الفرس، و 3.255 من الترك الآذربيجانية ، و 2.457 من الألمان وغيرهم .
توضح لنا الإحصائيات السابقة أن سكان تفليس ينتمون إلى عدة قوميات ، وهذه نتيجة ما تعاقب على حكمها من الشعوب ، ولا شك أن بعض سكانها من أصل عربي امتزج بالفرس والترك عبر مسيرة الزمن .
ذكر الطبري ، في تاريخه أن تفليس قد فتحت سنة 22 هـ على يد حبيب بن مسلمة - رضي الله عنه - وذلك بعد فتح باب الأبواب على يد سراقة بن عمرو ، في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-(7) . وذكر الطبري(8) كتاب الأمان الذي كتبه حبيب ابن مسلمة إلى أهل تفليس ، وقد عَينَّ حبيبٌ الفقيهَ عبد الرحمن بن جزع ؛ ليعلم أهالي تفليس أصول الدين الإسلامي ، وأقدم درهم أموي ضرب في تفليس سنة 85 هـ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، وقد استمرت دارُ سَكِّ الدراهم في تفليس لغاية سنة 310 هـ . واستمرت الإمارة الأموية في تفليس لغاية سنة 238 هـ حيث قضى عليها "بُغَّا" التركي - ومعنى بغا التركية : ثور باللغة العربية - وكان ذلك أيام المتوكل العباسي (232- 247 هـ) (9) وإثر ذلك بدأت سيطرة العرب بالتراجع(10) وبدأ تاريخ الصراع الطويل بين المسلمين العرب والترك من جهة ، والكُرْج والأرمن من جهة أخرى ، حيث سيطرت الإمارة الساجية على أذربيجان وتفليس (276-317هـ) ولكن الكُرْج اجتاحوها سنة 421 هـ ، ثم هاجمها آلب أرسلان السلجوقي (455-471 هـ) فشتت شمل الكُرْج ، وأخضع تفليس لسيطرته.
حاصر الكُرْج مدينة تفليس ، واشتد قتالهم لمن بها وتفاقم الخطب وعظم الأمر على أهلها، ودام الحـصـار إلى سنة (515 هـ) فملكوها عُنْوَةً ، وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيهــا وخطيبها إلى الكُرج في طلب الأمان ، فلم تُصغِ الكُرج إليهما ، فأخرقوا بهما ، ودخلوا البلد قهراً ، وغلبة ، واستباحوه ، ونهبوه ، ووصل المستنفرون منهم إلى بـغـــــداد مستصرخين ومستنصرين سنة 516 هـ ، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه ، واستغاثوا به ، فسار إلى أذربيجان ، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان ، وأنفذ عسكراً إلى الكرج.."(11) .
وفي سنة 788 هـ داهم تيمورلنك بلاد الكُرج ، واحتل تفليس ، وخرب البلاد سنة 803 هـ وأقام في تفليس حامية خراسانية ، ثم استمرت المناوشات ، فأعاد تيمور الكرة على تفليس "وضرب جميع أديرتها وكنائسها وذهب سنة805 - 806 هـ (12) ، وفي عام844 هـ استولى الشاه جهان القراقيون لي (جهان شاه) (841-872هـ) على تفليس ، وطرد الكُرج منها ، ثم غزا أوزون حسن (حسن الطويل) الآق قويون لي (الغنام الأبيض) بلاد الكرج سنة 871 هـ وحرر الأسرى المسلمين ، وترك حامية في تفليس ، بقيادة صوفي خليل بك .
واستولى العثمانيون على بلاد الكُرج فترة (986-1012هـ/1579-1603 هـ) واستولوا على تفليس، وولي عليها محمد بن فرحاد باشا (فرحات باشا)(13) ، ثم استعاد الشاه عباس الأول مـديـنـة تفليس من العثمانيين سنة 1012هـ/1603م وسيطر على بلاد الكُرج فقتل منهم سنة 1025هـ حوالي "70.000" ثم قتل منهم حوالي 10.000 سنة 1033هـ ، وبعد ذلك سيطر كيخسرو (رستم) على تفليس (1043هـ) . ثم آلت مقاليد الحكم إلى جيورجي الحادي عـشــر سنة 1099هـ وخلفه أريكله الأول (Ereklei) (1099- 1102هـ) فأسلم وأصبح يعرف باسم : نظر علي خان .
توفي الملك أريكله الكهل سنة 1212هـ/1798م وخلفه ابنه جيورجي الثاني عشر ، فأعلن تبعيته لقيصر روسيا ، وأصدر بطرس الأول فرماناً بضم بلاد الكُرج إلى روسيا سنة 1214هـ /1800م وأعلن الضم في 27 رجب 1081هـ/11 يناير 1801م ، وتخلى الفرس عن المطالبة ببلاد الكُرج مـنـذ سـنـــة 1228هـ /1813م ، وفي سنة 1336هـ/1918م أصبحت تفليس عاصمة جورجيا السوفييتية، وفـي 16 جـمــادى الأولى سنة 1339هـ/26 يناير 1921م اعترف الحلفاء بالكُرج .
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، استيقظت النزعات القومية بعد أن عانت من الكبت الشيوعي كثيراً ، وراحت كل قومية تعمل من أجل بناء دولتها ، وجورجيا كغيرها من دول الاتحاد المنهار ، تعاني من التعددية القومية ، والتعددية الدينية والمذهبية حيث تضم ثلاث جمهوريات ومقاطعة مستقلة ، تحتوي على عدة شعوب منهم الكُرج والأرمن ومنهم الفرس والترك والآذربيجانيون ، وهذا هو السبب الذي يدفع هذه الجمهورية إلى حرب أهلية ستسفر عن ثلاث جمهوريات أو أكثر ، وقد أعلنت مقاطعة أوستيتا الجنوبية استقلالها لتنضم إلى أوستيتا الشمالية ، وهـــذه فـاتحة التمزق بالإضافة إلى حروب رئيس الوزراء السابق "زفياد غمسا خورديا" وحروب الأبخاز التي ما زالت مستمرة .
الهوامش :
*- يخوض الأبخاز حرباً ضارية في سبيل الاستقلال عن الكُرْج الجورجيون .
**- كانت باطوم تابعة للخلافة الإسلامية العثمانية ، احتلتها الحكومة الروسية ونشرت إعلاناً لسكان باطوم في شهر آب سنة 1880 م نذكر منه ما يلي :
1- إن الدين الإسلامى يبقى محترماً والانتقام ممنوع منعاً كلياً ولا يسوغ لأحد أن يمس عرض نساء الترك ولا أن تنتهك حرمتهن فإن قوانين الروسية تنهى عن ذلك وكذلك القرآن يأمر الرجال من المسلمين أن يحترموا أزواجهم .
2- إذا وقع نزاع بين المسلمين يكون فصله بموجب الشريعة الإسلامية كما كان أيام الترك.
3- لا يزاد شيء في الضرائب والعوائد ولكن عوضاً عن أداء الأعشار تجعل ضريبة معلومة ويحصل بالتساوي بين الغني والفقير وبالجملة فان الضرائب تكون أخف مما كانت في أيام الترك بل يكون الفقراء مستثنين من ذلك .
4- حقوق التمتع في المعابر تبقى كما كانت .
5- دولة الروسية لا تأخذ من الأهالي أحداً للخدمة العسكرية كما هي العادة في "القوقاز" و"كرجستان" ولكن ترتب جنوداً محلية للمحافظة على الحدود ويكون لهم مرتب شهري ولا يخفى أنه من الواجب على كل من أبناء الوطن أن يحافظوا على بلادهم لدفع تسلط العدو فيلزم لأهل باطوم أن يعتبروا هذا الأمر حق الاعتبار .
6- يلزم إنشاء مدراس تتعلق بالجوامع كما كانت في أيام الترك ودولة الروسية تساعدها على إنشائها من دون أن لكون لها حق في استعمالها .
7- يكون لكل أحد حق في أن يهاجر إلى تركيا إلى غاية المدة التي قررتها معاهدة برلين وأن يبيع كل ما يريد بيعه ما عدا الأراضي وبعد مضي المدة المذكورة يمكن له أيضاً أن يهاجر ولكن يلزمه الحصول على تذكرة المرور (باسبورط) .
8- المسلمون الذين يظهرون حسن السيرة والسريرة يوظفون في الوظائف العادية ، وفضلاً عن ذلك يوظفون أيضاً في الوظائف الإدارية ، وفي رتبة قائم المقام .
"نقلاً عن مختارات الجوائب 7/245"
(1) جغرافية الاتحاد السوفييتي ، ص 313 .
*** انظر معجم البلدان لياقوت الحموي . مادة : تفليس .
(2) الأنساب ، للإمام السمعاني ، المتوفي سنة 562 هـ /1166 م، مادة التفليسي،1/471 - 472 .
(3) 22 / 367.
(4) 19/11، الترجمة 6 .
(5) سير أعلام النبلاء 18/299 .
(6) سير أعلام النبلاء 21/13 و ص 24.
(7) تاريخ الطبري ، 3/235 - 236 .
(8) 3/241 .
(9) تاريخ الطبري ، 9/139 وابن كثير 10/317 .
(10) تاريخ المسعودي 2/67 .
(11) الكامل لابن الأثير 11/399 ، طبعة بريل 1864 م. وسير أعلام النبلاء للذهبي 19/453 .
(12) دائرة المعارف الإسلامية ، 9/452 (يجب الانتباه إلى مغالطات دائرة المعارف الإسلامية) .
(13) تاريخ الدولة العلية العثمانية 261-266 .

*********

العودة إلى أعلى